&خليل علي حيدر
&
آثر مرشد الإخوان حسن البنا الصمت والكتمان والغموض وسيلة للعمل الحزبي والصعود السياسي في مصر خلال مرحلة الحرب. وعمد إلى عسكرة جماعته كل ما أسعفته الإمكانات والعلاقات مع النظام الملكي المأزوم.
وأعد البنا، يقول طارق البشري، (فرقاً للجوالة، وجَمع السلاح ونظّم جهازاً خاصاً مسلحاً، ودرّب أعضاءه على الانصياع الكامل، وكان كل ذلك معلقاً ومربوطاً في يد فرد - المرشد - لا يُعرف له موقف محدد وصريح في أية مسألة ولا يمكن التنبؤ بما سيتخذ من مواقف مستقبلاً، وأصبحت الجماعة بهذا كالقنبلة التي لا يُعرف متى تنفجر، ولا من سيكون ضحيتها.وفي عام 1946، عندما بلغت الجماعة ذروة انتشارها وانطلاقها، بلغ عداؤها للوفد ذروته ووصل إلى حد الاشتباك في الطرقات مع مظاهرات الوفديين والشيوعيين. كما كان لطلبة الاخوان حوادث كثيرة استعملوا فيها العصي والسياط داخل جامعة القاهرة.. والمهم أيضاً أن دعوة الاخوان كان في تأكيدها على الدين وحده ما يفرّق بين طوائف الشعب الدينية، خاصة المسلمين والاقباط في قضايا تتعلق بصميم مشاكلهم المدنية والاجتماعية، وكان نمو الجماعة عاملاً في ظهور التوتر الشديد والبالغ الحذر من جانب الأقباط. والمهم كذلك أن حركة الاخوان بوضعها هذا نجحت في امتصاص جزء كبير من حيوية الشعب السياسية وأبقتها بعيدة عن المشاركة الايجابية في أحداث الفترة، كما أدت سيطرة المرشد الشخصية الى نوع من التقديس للفرد والى أن تتعلق الجماعة كلها بخيط واحد هو شخصية زعيمها». (الحركة السياسية في مصر، 1983، ص 78-72).


وتُظهر بعض المراجع قوة «الإخوان» وانتشارهم في هذه المرحلة. فقد أقاموا العديد من الشركات الاقتصادية التي درّت عليهم الأرباح، مكّنت لهم في أوساط العمال، وأصدروا جريدة يومية ابتداء من 5 مايو 1946، وأنشأوا الكتائب وأقاموا أماكن للتدريب على الأعمال العسكرية، وأوثقوا العهود مع أعضاء الحزب بصورة بيعة لرئيس الشعبة فالمرشد شخصياً، وقرروا «السمع والطاعة في المنشط والمكره» مقروناً بالقَسَم، ووضعوا المرشد العام موضع الثقة التامة، و«جعلوا له المنصب مدى حياته ليس له أن يتخلى عنه أو يُعفى منه إلا بقرار من الهيئة التأسيسية». (الاخوان المسلمون، د.اسحاق موسى الحسيني، بيروت 1952، 31-30).
ويتحدث د.الحسيني في كتابه الذي لم يُحبّذ الإخوان إعادة طباعته ونشره كثيراً، عن عدد أعضاء جمعية الإخوان فيقول: (بلغ عد

د أعضاء الجمعية ما بين 300 و600 ألف عضو من طبقة العمال، عدا الطلبة المثقفين حسب رواية جريدة التايمز اللندنية - نقلاً عن جريدة الإخوان المسلمين، 186، 12 ديسمبر 1946. أما البنا فذكرت الجريدة المذكورة أنه قال في العام الماضي إنه يتكلم باسم 500 ألف من الإخوان المسلمين الذين يمثلون مبادئ وآمال 70 مليون عربي و300 مليون مسلم. وذكر وكيلهم في المذكرة التي رفعها إلى مجلس الدولة في شهر أبريل سنة 1952 أن عدد الأعضاء العاملين في مصر وحدها بلغ سنة 1948 حوالي نصف مليون، والأعضاء المنتسبين والمؤازرين أضعاف هذا العدد. (ص 31).
وحاول المرشد التخفيف قليلاً من بروز الحركة بعد اغتيال النقراشي، ولكن هذا التراجع، يقول د.الحسيني، لم يُغن شيئاً. ففي مساء يوم 12 فبراير 1949 تم اغتيال البنا أمام دار جمعية الشباب المسلمين التي كان يتردد عليها بعد حل جمعية الاخوان. «وتتبعت الحكومة الاخوان وجرت لهم محاكمات طويلة واصبحوا (غير شرعيين). ولكن الفروع التي أسست في البلاد العربية ظلت توالي نشاطها، لا سيما في سورية التي تبنى فرعها الحركة بزعامة الشيخ مصطفى السباعي» (د.الحسيني، نفس المصدر، ص 37).
يخصص طارق البشري فصلاً كاملاً من كتابه للحديث عن الإخوان بعد حسن البنا الذي «صاغ جماعة الإخوان المسلمين فكراً وتنظيماً بما يجعلها مرتبطة به شخصياً وما يجعله المسيطر الأوحد عليها الممسك الوحيد لأعنّتها والموجه لنشاطها».
ويضيف البشري أن البنا استغل في ذلك عاملين: «أولهما الغموض المحيط بأهدافها وبطبيعتها وبمناهجها العملية كدعوة سياسية، وثانيها، بناء تنظيم الجماعة بطريقة تجعله صاحب الأمر وحده وتجعل سائر أجهزة التنظيم ومستوياته ومكاتبه ولجانه مجرد كيانات استشارية يملك عليها الأمر ويجب عليها السمع والطاعة». (البشري، ص 367).
كان غموض فكر الجماعة قائماً كما هو واضح على خلط الدين بالسياسة، إلى جانب طبيعة المرحلة ورؤى البنا الشخصية وكذلك الهيكل الفكري والتنظيمي لجماعة الإخوان شبه العلنية شبه السرية، والتي أراد لها المرشد البنا شريكة في كل شيء وغير مرتبطة سياسياً بأي شيء، تلعب على الدوام على الخيوط والحبال الممتدة بين الدين والسياسة والمنافسات الحزبية والصراعات والمصالح المتفاوتة وكل شيء.
فهي إذن جماعة لا يمكن أن تنسجم في أي عمل جماعي دون أن تهيمن عليه، ولا يمكن كذلك إلزامها بأي تصريح أو موقف لأنها قادرة على تفسير وتبرير كل شيء وفق النصوص الدينية أو تفاصيل السيرة والتراث وآراء المذاهب، أو المصالح المرسلة أو فقه الأولويات أو عشرات المداخل والمخارج الأخرى المعروفة والمجهولة.
يقول البشري: (كان ما يحيط فكر الجماعة وأهدافها من إبهام مما يفيد قيادتها في أن تجذب إليها كتلاً من الجماهير ومن القوى السياسية متباينة المواقف والمشارب في السياسة والأهداف العملية، وهو ما يفيدها أيضاً في القدرة على الحركة الطليقة غير المقيدة بأهداف محددة ولا مناهج مسبقة، وهو ما يفيدها في أن يحتفظ المرشد العام بسلطات الزعامة الشخصية في الجماعة وعلى كوادر «الإخوان» وجماهيرهم باعتباره صاحب الدعوة، فلا يملك أحد غيره في أية مواقف عملية أن يوضح أو يبين وجهة الجماعة، ولا يعترف الجمع الرابض في الجماعة لأحد غير المرشد بذلك، ولو كانت الأجهزة القيادية، فالمرشد هو المبايع على السمع والطاعة. وبهذا كان الغموض منهجاً يرتب نتائج عملية محددة، كان نوعاً من مصادرة (المعرفة) لحساب فرد واحد هو المرشد، فكان غموضاً واعياً ومقصوداً لفائدة معينة. وبدت الجماعة في زمن البنا قوية متماسكة موحدة، وكان من الطبيعي مع اغتيال المرشد العام في فبراير 1949 أن تستشعر الجماعة اليتم وأن تظهر الخلافات بين أعضائها وقادتها حول الأهداف السياسية ومناهج العمل. (البشري، ص 368-367)
كيف تلقى الإخوان كأفراد هذه التجربة العنيفة وكيف كان تأثرهم بها؟


كان الاخواني المعروف عباس السيسي مثلا أحد هؤلاء، حيث كان قد انضم للجماعة عام 1936، وظهرت مذكراته عن الجماعة سنة 1986 بعنوان «في قافلة الاخوان المسلمين» يقول فيها تحت عنوان «استشهاد الإمام حسن البنا» مايلي، ص 234:
«بعد أن قتل النقراشي باشا،أشفق الاخوان جميعاً على حياة الاستاذ المرشد، وكان خوفنا على حياة الاستاذ البنا هو الشغل الشاغل ليل نهار، وفي صباح الثالث عشر من فبراير 1948، خرجت من منزلي في طريقي لركوب السيارة التي تنقلنا من اسيوط الى منقباد، ودخلت السيارة فرأيت على الوجوه علامات غير عادية، وسمعت الزملاء المسيحيين يقولون بصوت مرتفع ان الاخوان انفسهم هم الذين قتلوا حسن البنا، ففزعت لمجرد ان سمعت كلمة «قتلوا» وتمنيت الا يكون قد مات، وزاد الصخب وارتفعت الاصوات ولكني لم اشارك في المناقشات الحامية الوطيس لأني كنت في حالة من الذهول، ذهبنا الى الوحدة واسرعت الى جهاز الراديو كي استمع الى الاخبار فتأكدت من المصيبة العظمى التي انهارت لها اعصابي واصابني دوار شديد، وفي طريق العودة الى المنزل اشتريت جريدة الاخبار وقرأت فيها التفاصيل، دخلت على زوجتي مخفيا عنها الجريدة، لكن الحمى داهمتني فأسعفني بعض زملائي ومكثت في المنزل ثلاثة ايام ثم عدت الى الوحدة».
نظر «الإخوان» إلى مرشدهم دوماً نظرة إجلال وتقديس، ولم يعمدوا يوماً إلى تحليل شخصية البنا أو قراءة أي نقد أو انتقاد يمسه أو يعارض فكره أو يكشف أخطاءه التنظيمية. فلا تربيتهم الحزبية كانت تسمح بذلك ولا البنا نفسه أو قيادات الجماعة.بل اعتبره الكثير منهم مصلحاً كبيراً ومجدداً للدين والإسلام، واغتبطوا لمجرد السير في ركابه ومؤازرة دعوته.


من أفضل النماذج هنا مثلاً كتاب د.يوسف القرضاوي المعروف «الإخوان المسلمون: 70 عاماً في الدعوة والتربية والجهاد». مكتبة وهبة بالقاهرة 1999.
ففي المقدمة يطالب د.القرضاوي بالالتزام بالموضوعية والدقة العلمية لدى دراسة تاريخ الجماعة، ولكنه لا يطبق هذا المنهج بمتطلباته على تاريخ «الإخوان» والانتقادات التي وجهت إلى الحركة ومرشدها.
يقول د.القرضاوي: (كنت أخذتُ على الإخوان - ولا أزال - أنهم لم يكتبوا تاريخهم بطريقة علمية موضوعية موثقة، بعيداً عن كتابة «المتحاملين» من خصوم «الإخوان»، أو خصوم الإسلام، وعن كتابة «المناقبيين» من كُتّاب «الإخوان»، الذين ينظرون إلى تاريخ الإخوان على أنه جميعه مناقب وأمجاد، بل ينبغي النظر إلى «الإخوان» نظرة وسطية منهجية، تقول ما لهم وما عليهم، مميزين بين أصولهم وأهدافهم الإسلامية، التي لا ينبغي الخلاف عليها، وبين مواقفهم واجتهاداتهم البشرية، باعتبارهم مجموعة من المسلمين تجتهد في خدمة الإسلام). (ص5)
غير أن د.القرضاوي لا ينظر بهذه المقاييس العلمية والحياد إلى مرشد الجماعة، فيقول عنه تحت عنوان حسن البنا: «القائد المنتظر»، من سنن الله تعالى: أن يهيئ لكل مرحلة رجلها الذي يناسبها، وأن يبعث لهذه الأمة في كل قرن من يجدد لها دينها، ويعيد إليها حيويتها.وقد قال سيدنا علي كرّم الله وجهه: «لا تخلو الأرض من قائم لله بالحجة».


ويستعرض د.القرضاوي مجددي الإسلام عبر العصور، ويقول: «قد يكون الرجل المنشود إماماً أعظم كعمر بن عبدالعزيز، وقد يكون أميراً أو قائداً عسكرياً مثل نور الدين محمود أو صلاح الدين، وقد يكون إماماً فكرياً ودعوياً، مثل أبي حامد الغزالي، وقد يكون مربياً روحياً، مثل عبدالقادر الجيلاني، وقد يكون مجدداً فقهياً وتربوياً وإصلاحياً مثل أبي العباس ابن تيمية.فكل واحد من هؤلاء جدّد فيما كان يفتقر إليه عصره وبيئته من جوانب التجديد الضرورية واللازمة».
ثم يضع د.القرضاوي مرشد «الإخوان» في مصاف هؤلاء فيقول: «وقد كان وضع العالم الإسلامي عامة، ووضع مصر والعالم العربي خاصة، يحتاج إلى رجل ذي فكر ثاقب، وحس مرهف، وإيمان دافق، وإرادة صلبة، يشعر بما تعانيه الأمة من أمراض وآلام، ويقدر على تشخيص الداء، ووصف الدواء، ويصبر على متابعة مريضه، حتي ينتقل به من مرحلة السقام إلى مرحلة العافية، ومنها إلى مرحلة القوة».
ثم يختتم د.القرضاوي هذا المقطع الطويل من التبجيل قائلاً: «كان هذا الرجل المنشود أو القائد المنتظر، هو حسن البنا». لقد هيأ الله له من الأسباب - منذ نعومة أظفاره - ما يرشحه للمهمة المطلوبة، اب صالح مشغول بالعلم والعمل معا، وبيئة ريفية متدينة محافظة بعيدة عن صخب المدن، واساتذة صالحون، وطريقة صوفية تعرف بالطريقة الحصافية ايقظت حاسته الروحية، وجمعيات دينية كان ينشئها او يشارك فيها، ثم كانت النقلة الكبرى، بذهابه الى القاهرة، وقد صلب عوده، وتفتح فكره ووجدانه.. كان القدر الاعلى يصنع رجلا يعده لمهمة، ويسد به ثغرة، كان الرجل هو حسن البنا، وكانت المهمة هي ايقاظ الامة من رقود، وبعثها من همود، وتحريكها من جمود، وكل من لقي حسن البنا خرج من لقائه مثنيا عليه، وهكذا ترى اكثر من اثنى على حسن البنا انما هم الاخوان القريبون منه، العارفون به، المخالطون له، انظر ما قاله عند الهضيبي والتلمساني، وابو النصر، ومشهور، الذين تولوا منصب الارشاد العام من بعده، وانظر ما كتبه عنه محمد فريد عبدالخالق، وعباس السيسي ومحمود عبدالحليم وغيرهم ممن صحبوه وعايشوه، وعرفوا مدخله ومخرجه» (ص 50-41).


ولا يكتفي د.القرضاوي بما قاله في كتابه عن الاخوان المسلمين الصادر عام 1999، فهو يعيد نفس النظرة العاطفية والولاء الحزبي للمرشد في الكتاب الذي كتبه د.القرضاوي بعنوان «ابن القرية والكُتّاب: ملامح سيرة ومسيرة»، دار الشروق، القاهرة، 2002 والذي يعرض حياة وتجارب القرضاوي في جماعة الاخوان وما بعدها.
واترك للقارئ الحكم على «المنهج العلمي» الذي يحلل د.القرضاوي به شخصية مرشد الجماعة ودوره!

&



&