فهمي هويدي

&
حين شغل المصريون بالارتفاع الاستثنائي في درجة حرارة الطقس خلال الأسبوع الماضي، فإن كثيرين لم ينتبهوا إلى أن ذلك توازى مع تصعيد غير مألوف في لغة الخطاب الإعلامي.
ورغم أن «التسخين» يعد قاسما مشتركا بين الحالتين إلا أن هناك تمايزا يجعل القلق والتوجس من التسخين الإعلامي أكبر. ذلك أن الارتفاع في درجة حرارة الجو يظل قدرا مكتوبا، وموجة عارضة ثم إنه مقدور عليه في نهاية المطاف ووسائل تجنبه أو التخفيف من أثره في متناول الجميع. ناهيك عن أن المعاناة في هذه الحالة تشمل الجميع، بدرجات متفاوتة بطبيعة الحال. أما التصعيد في لغة الخطاب الإعلامي فهو مختلف تماما في آفاقه وأجله، فهو اختيار وليس قدرا، ثم إنه ليس أمرا عارضا وإنما هو تعبير من توجه سياسي مسكون بالإنذار والوعيد وبما هو أكثر من ذلك. ثم إنه موجه ضد جزء من المجتمع وليس كله، والذين يوجه إليهم الخطاب يخيرون بين الانصياع والامتثال أو الاشتباك الذي لا تؤمن عواقبه وقد لا تحتمل كلفته.
في الأسبوع الماضي سمعت بأذني أربعة من مقدمي البرامج التلفزيونية يصفون الناقدين للأوضاع الراهنة بأنهم خونة وعملاء يدعون إلى إسقاط الدولة ويعادون الجيش والشرطة. وهي أوصاف جرى تعميمها دون أي تحفظ أو استثناء. ليس ذلك فحسب، وإنما ترددت في أحاديثهم ومواعظهم عبارات صريحة ذكرت أن هؤلاء الذين ينتقدون ليس لهم مكان في مصر. وإذا لم يعجبهم الحال فعليهم أن يغادروا، وقد استخدم أحدهم وصفا أكثر صراحة، حيث دعاهم لأن «يغوروا» بعيدا عنها، وهي كلمة مقابلة لمصطلح «في ستين داهية»!.
هذه اللغة جديدة في الخطاب الإعلامي، لأننا لم نسمع خلال العام الأخير وصفا للناقدين والمعارضين بأنهم «خونة»، ولم يسبق أن دعوا إلى مغادرة البلاد وأن «يغوروا» بعيدا عنا. وفي حدود علمي فإن الرد الذي كان أكثر شيوعا في مواجهة الناقدين أو المتحفظين كان ينبههم إلى أن الحاصل أيا كان الرأي فيه، فإننا ينبغي أن نحمد الله ونشكره على أن حالنا يظل أفضل مما جرى في سوريا أو العراق أو ليبيا. ومن ثم فإننا نصبح بإزاء «قضاء» هو أخف كثيرا من أي قضاء آخر حل بغيرنا في عالمنا العربي.
هذه اللغة التحذيرية التي تلوح بالعين الحمراء كان لها صداها في بعض الكتابات التي نشرتها عدة صحف، مع فرق أساسي، هو أن بعض الصحف احتملت آراء أخرى مقابلة في حين قنوات التلفزيون مغلقة تماما أمام الرأي الآخر.
هذه الملاحظات إذا صحت فإنها تثير أسئلة عدة، منها مثلا: عما يعبر هؤلاء؟ ولماذا التركيز على قنوات التلفزيون في تعميم حملة التحذير والتخويف؟ وهل هي مصادفة أن تطلق تلك الأصوات في وقت واحد مروجة للأفكار ذاتها؟ وهل هناك علاقة بين تسريب تقرير جهاز الأمن الوطني في الأسبوع الذي سبقه مباشرة الذي حذر من مؤامرة ضد النظام ودعا إلى تشديد القبضة الأمنية وإظهار «العين الحمراء» للجميع مع التوسع في ملاحقة النشطاء؟ وما علاقة كل ذلك باقتراب مناسبة مرور عام على انتخاب الرئيس السيسي (في ٣ يونيو ٢٠١٣)، الأمر الذي يفتح الأبواب لعملية الجرد وتقييم ما جرى خلال العام؟.
لا أخفي أن الذي دعاني إلى التشكيك في براءة حملة التخويف والإنذار التي قادها مقدمو بعض البرامج التلفزيونية عدة أمور، منها أن التنسيق بين المؤسسة الأمنية وإدارات التوجيه المعنوي وبين أغلب مقدمي البرامج التلفزيونية لم يعد سرا، وقد كشفته وأثبتته بعض التسريبات التي رآها الجميع. منها أيضا أن الكلام خطير ويتجاوز السقف الذي يتحرك في حدوده الإعلامي العادي، وحين يتردد الكلام ذاته على أكثر من قناة في توقيت متقارب، فإن احتمال المصادفة في ذلك التتابع يصبح مستبعدا، منها كذلك أن تلك الحملة أطلقت بعد أيام قليلة من نشر خلاصة تقرير جهاز الأمن الوطني الذي سبقت الإشارة إليه. منها أيضا أن تحذير الناقدين وتخويفهم جاء بعد تعالي تلك النبرة في بعض الكتابات، إضافة إلى تململ كثيرين من ثقل الأعباء المعيشية في ظل تنامي مؤشرات الغلاء واستمرار الركود الاقتصادي.
لا أظن أن عاقلا تصور أن مشكلات الواقع المصري يمكن أن تحل خلال عام أو اثنين أو ثلاثة، لكنني أفرق بين حل المشكلات وبين الثقة في إمكان إنجاز ذلك الحل يوما ما. ومن الواضح أن هناك تعويلا كبيرا على القبضة الأمنية وعلى الإعلام التعبوي في محاولة تعزيز تلك الثقة، إلا أن ذلك ليس كافيا، لأن الممارسات التي يلمسها الناس هي التي تزرع الثقة أو تبددها. وبعض تلك الممارسات يسحب من رصيد الثقة ولا يضيف إليه. ورغم الجهد الذي يبذله الإعلام التعبوي في إشاعة التفاؤل فإن مختلف الأدلة والقرائن تشير إلى أن الأمل في الانفراج السياسي والاقتصادي لا يزال بعيد المنال.
إذا سألتني ما العمل إذن؟ فردي أن غموض الإرادة السياسية هو المشكلة، لأننا حائرون بين الرغبة في تصديق ما يقال، والتعجب مما يحدث على الأرض، وتلك حيرة تثير من الخوف بأكثر مما تحيي من الأمل.
&