شتيوي الغيثي

التعايش قيمة اعتبارية في مفهوم الدولة الحديثة، وتتكئ عليه غالبية المجتمعات، ومجتمعنا من ضمنها، على مستوى الممارسة دون التنظير. فقط نحتاج إلى قانون يجرم العنصرية بكافة أشكالها

&


منذ سنوات طويلة كانت المجتمعات تعي قيمة التعايش رغم كل الطوائف المنتشرة في العام الإسلامي، وإن كانت تحمل بنية كراهية إلا أنها كانت تدور في إطار العمل السياسي والديني لا أكثر، في حين استطاعت الشعوب العربية التعايش رغم اختلاف المذاهب، ولعل الدولة الوطنية الحديثة استطاعت أن تعيد دمج المجتمع العربي بكافة أطيافه تحت مظلة الدولة الوطنية الواحدة لولا أن فشل بعض السياسات القومية العربية قاد إلى صعود التيارات الإسلامية التي قام بعض منها على أنقاض الدولة الوطنية لتفجر المنطقة بعد ذلك بالطائفية، لكن ما زالت بعض الدول العربية ذات الاستقرار السياسي في تعايش مجتمعي وإن لم يكن بذلك العمق الذي نرجوه، وقد كتب العديد من المفكرين والكتاب العرب في أهمية تعزيز قيمة التعايش في الوطن العربي إلا أن الاتجاهات الإسلامية من شيعة وسنة إلى جانب سياسيات بعض الدول العربية كان لها فعل مختلف إذ تم تعزيز التطرف الطائفي على أشده ليقود العرب -وخاصة في العراق وسورية واليمن- ويلات الطائفية والميليشيات المتطرفة التي أصبحت لها الكلمة الكبرى في بعض المناطق العربية.


بالنسبة للجزيرة العربية فقد كانت طيلة قرون مثالا لذلك التعايش بين الطائفتين: السنية والشيعية حتى على مستوى البلد الواحد، وفي السعودية تحديدا كانت الأحساء والقطيف ونجران والمدينة أو الحجاز بعمومه ذات تنوع عميق وتعايش في أصل البنية التركيبية للمجتمع ولم تكن هناك أية مشكلة، وجرائم الإرهاب التي وقعت مؤخرا إنما جاءت لتحاول ضرب عمق التعايش المذهبي، ولكن جاء الاستنكار والتعاطف المجتمعي مع شهداء القديح وشهداء العنود دليلا على قيمة التعايش وفرض الأمن على كل من يفكر في تهييج الطائفية، وخرج بيان هيئة كبار العلماء ليدين العملية الإرهابية ويعدها جريمة في حق المواطنين.


المجتمع السعودي بعامته عانى من مشاكل الإرهاب. هذه المرة توجهت يد الإرهاب لتغتال الأبرياء في قرية الدالوة بالأحساء ومن بعده القديح والعنود، فحينما عجزت عن زعزعة الأمن بعملياتها الإرهابية منذ 2003 ها هي تحاول أن تحرك المسألة الطائفية، إذ إن تحول المسألة من المواجهات الأمنية إلى استهداف المواطنين يشي بنوع من تطور العمليات الإرهابية بسبب فشلها في مواجهة رجال الأمن، لكن رد غالبية المجتمع السعودي يرفض ذلك، ويتذكر كيف أن الجميع عانى من التطرف والإرهاب. وقد شدد عدد من المثقفين والكتاب والمشايخ وأعيان البلدان في أكثر من منطقة على أن الحوادث لا صلة لها بالمذهبية، وإنما هي يد الإرهاب التي عانى منها الجميع، وهذا الموقف يتكرر لدى عدد كبير من المواطنين الشيعة ومثقفيهم الذين نعرفهم، ما يعني أن التعايش ما زال باقيا في هذا المجتمع، ولن تضيره بعض الحوادث القاسية، بل إن أمن المواطنين يكاد يصبح ثابتا من الثوابت الوطنية لهذا المجتمع.
لا يمكن أن يتنازل المجتمع السعودي عن قيمة الأمن مهما اختلف في تياراته وثقافته ومذاهبه، فالأمن خط أحمر، والدليل أن المجتمع بمختلف أطيافه قام بدحض الإرهاب، ووقف بكافة تياراته ضده، حتى يمكن أن يكون هو المشترك الوطني الأكبر إلى جانب مشتركات أخرى بين كافة المختلفين في هذا المجتمع.


هذا المجتمع ركز على قيمة الأمن بعد الحوادث وأهمية التلاحم الوطني، مما عزز الوحدة الوطنية أكثر بين مختلف المذاهب، الأمر الذي جعل القضية تنقلب على الإرهاب، بحيث تحول المجتمع كافة إلى غير ما أراد هؤلاء الإرهابيون من تأجيج الطائفية في السعودية، بل بالعكس زاد تلاحمهم ووقوفهم ضد هذا العمل المشين ـ أقول: كما ركز المجتمع على قيمة الأمن بعد الحادثة، فإن التركيز من قبل كافة الأطياف الفكرية والاجتماعية أكثر على مسألة التعايش، وإعطائه قيمة أعلى، فإن كل مشاكل التطرف، عند البعض، سوف تنخفض إلى أقل مستوياتها، فالتعايش يضرب في أساسات التطرف، ويكسر تلك القاعدة التي يتكئ عليها المتطرفون في بث رؤاهم، لكن مازال هناك من يبث الفرقة والكراهية الطائفية بتعميم الحديث عن أخطاء أفراد على كل المذهب بلا استثناء بين العوام والسياسيين أو بين المجرمين والأبرياء، وهي تعميمات تجعل العواطف تشحن ضد كل أبناء المذهب للأسف.


لكن المؤكد أن المجتمع السعودي مجتمع متعدد الأطياف، وإن غلب عليه شكل واحد، وهو المحافظة؛ إلا أن هناك الكثير من الأفكار والتيارات والطوائف الموجودة والمتعايشة على المستوى الفعلي منذ سنوات طويلة، وليست بالجديدة على الناس إلا صور نمطية من السهولة أن نتجاوزها مع التعايش اليومي والفعلي وعلى أبسط المستويات، فما بالك بالمستويات العليا التي عادة تثبت قيمة التعايش كما ظهر في البيانات التي ذكرناها عاليا.


التعايش من أكثر القضايا التي يمكن فيها محاربة الطائفية في المجتمعات بل يمكن القول: إن التعايش هو القيمة التي يحاول المتطرفون من المذهبين ضربها كونها تقف سدا منيعا دون تمرير ما يريدونه من خلخلة الأمن وضرب اللحمة الاجتماعية لإمكانية السيطرة على المجتمع خاصة في ظل انعدام الجانب الأمني والهيجان الاجتماعي ضد بعضه البعض، وعلى ذلك جاءت الدولة الحديثة لتعزيز قيمة التعايش كونه يقف أمام أي محاولة لجر المجتمعات إلى الطائفية.
إن قيمة التعايش قيمة اعتبارية في مفهوم الدولة الحديثة، وتتكئ عليها غالبية المجتمعات، ومجتمعنا من ضمنها، على مستوى الممارسة دون التنظير. فقط نحتاج إلى قانون يجرم العنصرية بكافة أشكالها، بحيث نقطع على التطرف أي طريق يمكن الدخول إليه في زعزعة أمننا واستقرارنا ووحدتنا.
&