عبدالرحمن الوابلي

السياسة منهج إدارة مصالح تتغير بتغير جلب المصالح، أي هي بتبدل وتغير دائم، يمكن أن يكون من النقيض للنقيض، أما الدين فمنهج رباني لإدارة العلاقة بين المخلوق والخالق، وهو منزه عن ماديات المصالح التي تنتمي للسياسة

&


عندما أطرح الإسلام للجدل المعاصر فأنا لا أطرحه كوحي ودين سماوي له قدسيته ووقعه الوجداني لدى المسلمين؛ وإنما أطرحه من خلال رؤية المسلمين "أهل الفقه" له ومن خلفهم تبعة التطبيق العاطفي الشعبوي. ولا أناقش بدايات الإسلام التأسيسية ولا أحلل سياقاته التاريخية، حيث مجال المقال لا يسمح بذلك؛ وإنما أناقشه وأحلله بما وصل إليه الآن من صدامات دموية، إسلامية إسلامية، وإسلامية غير إسلامية. سأستبعد الاعتذاريات والتأويلات الخارجة عن سياقات الواقع التي يستخدمها الكثيرون، إن لم أقل الكل، من باب دس الرؤوس في الرمال وتطهير الذوات المؤسساتية الدينية والمتمثلة في فرية الاعتدال والوسطية، أو رمي عيوب وقصور الطرح الديني الملتهب على المتدينين أنفسهم.


الديانات بشكل عام، هي علاقة عامودية خاصة بين المخلوق وخالقه، من الناحية الإيمانية الروحية، والتعبدية الطقوسية. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتحول الديانات إلى علاقة أفقية بين المخلوق والمخلوق. فعندها لا يصبح الدين علاقة روحية بين خالق ومخلوق، وإنما علاقة سخرة المخلوق المادية للمخلوق باسم الخالق. وهذا هو الشرك الأكبر، الذي أتت الديانات جميعها لنفيه والخلاص منه.


ليس هنالك دين ودنيا، وإنما هنالك دين في الدنيا، عندما يكون هنالك دين ودنيا يصبح هنالك نصف دين ونصف دنيا، أي خليط من دين ودنيا. والحقيقة هي أن ما يوجد هو دين في الدنيا مستقل عنها، كما أن هنالك دنيا مستقلة عن الدين. وعلى هذا الأساس يكون لدينا دين كامل ودنيا كاملة، لا تداخل عشوائيا بينهما وإنما من الممكن أن يكون هنالك تناغم فردي بينهما، لا غير.


الدين نص قدسي ثابت، وقدسيته من ثباته، والدنيا عوالم متحركة، ولا يمكن ربط الثابت بالمتحرك إلا في حال أردنا من المتحرك بطبيعته ألا يتحرك وإنما يثبت، وهذا مناف لطبيعة الأشياء وديناميكيتها. وكذلك لا يمكن ربط المتحرك بالثابت المقدس إلا إذا أردنا من الثابت أن يتحرك، وهنا تتم مصادرة قدسية الثابت، وتحويله إلى نص بشري، قابل للصح والخطاء والأخذ والرد. وعليه ليس من الحكمة تحريك الثابت من مكانه، وليس من الممكن تثبيت المتحرك بطبيعته التكوينية. وعلى هذا الأساس فالدين ليس دنيا، أي ليس دينا ودنيا، وإنما هو دين في الدنيا، لضمان إلهية الدين وبشرية الدنيا وعدم تداخلهما ببعض، ومصادرة حق الفرد، المعني بالدين كروح والدنيا كمادة.


إن خلط السياسي بالديني هو توريط للديني بالسياسي، وبالوقت نفسه، توريط للسياسي بالديني، أي توريط كل منهما بالآخر. نرجع ونؤكد أن الدين هو علاقة عامودية بين الخالق والمخلوق، أما السياسة فهي علاقة أفقية بحتة بين المخلوق والمخلوق. السياسة هي منهج إدارة مصالح تتغير بتغير جلب المصالح، أي هي بتبدل وتغير دائم، ممكن أن يكون من النقيض للنقيض، وبدون أي مواربة أو تمويه، مثل الانتقال من الرأسمالية للشيوعية أو العكس، أو من الديكتاتورية للديموقراطية. أما الدين فهو منهج رباني لإدارة العلاقة بين المخلوق والخالق، تخص المتطلب الروحي البحت للمخلوق، وهو منزه عن ماديات المصالح التي تنتمي للسياسة. وكونه لا يخص بلدا أو بلدانا أو قومية بعينها، بل يخص كل مخلوق بالعالم، فهي ثابتة في أصولها، لا تتغير حسب المصالح، ولا تغير المصالح حسبها.


عندما يكون الديني دينيا والسياسي سياسيا، لا تداخل بينهما، يتفرغ الديني لما هو ديني، ويتفرغ السياسي لما هو سياسي، أي كل منهما يدير تخصصه حسب متطلباته المنهجية التي تخصه، والمتمركزة حول إشباع حاجات الإنسان منه، الروحي من خلال الديني والمادي من خلال السياسي. عندما يتحول الديني وهو ديني إلى ممارسات السياسي، ويتحول السياسي وهو سياسي إلى ممارسات الديني، ويختلط كل منهما بالآخر. عندها يصطدم الاثنان، أي يصبح الديني متغيرا حسب منهج إدارة المصلحة الدنيوية، ويصبح السياسي ثابتا حسب إدارة المنهج الروحي. عندها يتهاوى كلا النموذجين، عاجلا أم آجلا، نتيجة صدامهما مع بعض عاجلا، أو صدام نصف الواحد منهما بنصفه الآخر آجلا.
عند الخلط بين السياسي والديني يكون السياسي دوما رهينة للديني، والديني دوما رهينة للسياسي. وأول ما يختل التوازن بينهما، بسبب مطالبة الديني بتثبيت معطيات دنيوية متغيرة، تخص السياسي، أو مطالبة السياسي بتحريك معطيات دينية ثابتة تخص الديني، ينشب بينهما صراع طاحن، بسبب تداخل حدود مجال حركة كل منهما على الآخر. وعلى أساس هذا الخلط العجيب والمريب بين مجالي الديني والسياسي أدى إلى خلل فظيع في إدارة منهجيات الحياة والروحانيات، والذي أدى بدوره إلى خلق أزمة وجودية يعيشها المسلمون.


قبل العصور الحديثة كانت الحياة في معظم بلاد المسلمين، خاصة بلاد العرب، شبه بدائية وأبسط من أن يعقدها لا السياسي ولا الديني، بسبب شبه ثبات معطيات الحياة فيها ومحدودية مجالات تدخل السياسي كما الديني بحياة الناس، بشكل صريح ومباشر ودائم. وعندما ولج العالم الإسلامي، بما فيه العالم العربي، العصور الحديثة المتسارعة والمتحركة والمتغيرة والمتقلبة التي لم يكن الإنسان المسلم فاعلا فيها، وإنما هامش فيها وعليه مفعول به، اتضحت بجلاء أزمة إدارة الدين والدنيا عند المسلمين. الديني يريد تثبيت الدنيوي المتحرك، والسياسي يسعى إلى تحريك الديني الثابت، وأصبحت البلدان الإسلامية تدار بأنصاف آلهة وأنصاف بشر.


وتعممت عدوى أزمة أنصاف الآلهة وأنصاف البشر من رأسي الهرم للقاعدة، أي للناس العاديين وحتى الجهلة منهم في الوطن الإسلامي بشكل عام، والعربي بشكل خاص. وتعمم الجدل العبثي بين الثابت والمتحرك، والذي أصلا كان لا يجب أن يكون، وإنما أن يكون المتحرك متحركا والثابت ثابتا، ودخل هذا الجدل كل مدرسة وجامعة ومؤسسة، وأصبح حديث وجدل من ليس لديه حديث ناهيك عن جدل. وعليه تشظت المجتمعات العربية بين مطالب بالثبات ومطالب بالتحول، وخرجت المسألة من أيديهم في قمة الهرم، من سياسي وديني، وأصبحوا مفعولين بهم، لا فاعلين، تابعين لا متبوعين، واتسع الهامش في مجال الدين والحياة وتهمش المتسع بهما وبينهما.


إن ما يمر به العالم الإسلامي، خاصة العربي منه، بالفوضى والاحتراب والتدمير المتوحش المتبادل والممنهج بين فئاته، وتشظي المتشظي منها إلى شظايا أصغر منها، يعلن بأن الأزمة التي يمر بها العالم العربي هي أزمة وجودية ستطول، لا أزمة عابرة قابلة للحل في جنيف أو نيويورك أو حتى شرم الشيخ. وسيسفك فيها مزيد من الدماء، ويدمر منها، ليس فقط منشأته العمرانية الحديثة، وإنما حتى التاريخية القديمة، بعبثية لم يشهد لها العالم العربي مثيلا من قبل.


العالم يتحرك بمنهج واضح ومحدد، الثابت للثابت والمتحرك للمتحرك، وعليه تحرك بسرعة هائلة وجارفة بسبب معطيات العصر الحديث التي لم يشهد لها تاريخ الإنسانية مثيلا. أدت إلى جرف العالم العربي من أمامها متدحرجا، بسبب توقفه أو تحركه للخلف جاهدا بتحريك ما ثبت بأنه ثابت، وتثبيت ما ثبت بأنه متحرك.
&