عرفان نظام الدين

لا شك عند أحد في أن النظام الدولي القديم، بكل متفرعاته، قد أثبت فشله التام في حل معظم القضايا الدولية العالقة ومنع نشوب حروب إقليمية، بتحريض خارجي، أدت إلى مقتل الملايين وتدمير البنى التحتية لعشرات الدول النامية وإشاعة أجواء الفوضى والاضطرابات وارتفاع أرقام البطالة ومعدلات الفقر التي وصلت أخيراً إلى ما تحت الخط الوهمي المتعارف عليه.

&

ومن المؤسف أن معظم الويلات والمؤامرات والحروب كانت من نصيب العرب، ومن بعدهم المسلمين، إضافة إلى بعض الدول الآسيوية والأفريقية المنكوبة بالتدخلات والمطامع من جهة، والفساد والأنظمة الديكتاتورية من جهة ثانية.

&

كان اللوم يقع في القرن الماضي على ما سمّي «الحرب الباردة» بين الشرق والغرب (الاتحاد السوفياتي والدول الدائرة في فلكه والولايات المتحدة والدول الحليفة لها). كما كانت تبعات ما كان يجري في العالم تلقى على هذا الصراع العبثي المغرض الذي جر العرب إليه ليقسّمهم كالعادة بين معسكرين، أو بين السيئ والأسوأ، فدفعوا وحدهم الأثمان، وما زالوا حتى يومنا هذا، بينما حل الكبار مشكلاتهم وتعانقوا وتفاهموا على تأمين مصالحهم والحفاظ على مناطق نفوذهم كأن شيئاً لم يكن «وبراءة الأطفال في أعينهم»، تاركين من تبعهم من الصغار يندبون حظوظهم ويندمون على تصديقهم لأكاذيبهم «والدموع تنسال من عيونهم» من دون أن يتعظوا من الدروس.

&

وعندما انهار الاتحاد السوفياتي وسقطت الشيوعية وأزيل الستار الحديدي وهدم الجدار الفاصل بين الشرق والغرب... بشرونا بنظام عالمي جديد محكوم بأحادية الولايات المتحدة تسرح فيه وتمرح وتأمر فتطاع من دون رقيب ولا حسيب ولا رادع ولا مصارع.

&

لكن هذه البشرى ماتت وهي في مهدها، وضاعت أحلام الأميركيين سدى، فقد مضت سنوات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من دون أن تتمكن الولايات المتحدة من الإقلاع أو تثبيت قدرتها في الهيمنة على العالم، على رغم حالات الضعف والارتباك التي عاشتها روسيا في بدايات عهدها الجديد، وحفاظ الصين على حكمة الصمت التي تتميز بها، وتفاقم آفة الضعف التي لحقت بأوروبا.

&

فمع اختلال الموازين وانخراط الأميركيين في فخ الحروب، من أفغانستان إلى العراق، وغياب آلية الحسم في مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية والمالية، فشلت نظرية الأحادية وعادت روسيا إلى أحلام القيصر. ثم بدأ الترويج لنظريات «خنفشارية» عن «الإسلاموفوبيا»، (أي الخوف - أو التخويف - من الإسلام)، باختراع عدو للغرب بعد زوال الخطر السوفياتي وفشل المبادئ الشيوعية والاشتراكية واليسارية. فقد عمد أصحاب هذه النظريات، وهم من الأعداء (أي إسرائيل وغيرها) والعنصريين والمغرضين وأصحاب المطامع، إلى الترويج لمزاجهم بأن الإسلام سيكون العدو الأخطر والأول للغرب وديموقراطيته، وبأن المسلمين الذين يتجاوز عددهم البليون ونصف البليون إنسان يشكلون قوة وازنة وفاعلة تملك الثروات المعدنية والنفطية والطبيعية والبشرية، ومعها «حبة مسك»، وهي القنبلة النووية ويطلق عليها اسم «القنبلة النووية الإسلامية» التي تملكها باكستان وتطور منظومتها التقنية والصاروخية.

&

ويحرض أصحاب النظريات الخبيثة على تنفيذ خطة لمواجهة «الخطر المزعوم» في كل المجالات السياسية والإعلامية والمالية وإثارة الفتن وإشعال نار الحروب، وصولاً إلى تقسيم الدول وتفتيتها، إضافة إلى الحروب الاقتصادية وتأليب مكونات الشعوب على بعضها، كما حصل عند قيام الحرب العراقية - الإيرانية التي تبين أن الولايات المتحدة، بالتنسيق مع إسرائيل، تقدم أسلحة لإيران (فضيحة إيران غيت) في الوقت ذاته الذي تدعم العراق وتحرض صدام حسين على المضي في القتال حتى النهاية. كما تكرر هذا الأمر عندما حرضته على غزو الكويت عام ١٩٩٠ عن طريق السفيرة الأميركية أبريل غلاسبي التي قالت له، وفق المحضر الرسمي، إن الولايات المتحدة لا تتدخل في هذا الأمر لأنه شأن عربي يحل عبر الطرفين أو بواسطة الجامعة العربية. وصدق الرئيس العراقي المخلوع أنه حصل على الضوء الأخضر من السفيرة التي غادرت قبل الغزو بأيام، لتصدمها سيارة في واشنطن وتختفي أخبارها ويرتكب صدام جريمته التي دمرت العراق وشلّت الدول العربية وكرّست هيمنة الولايات المتحدة.

&

كما تسرّبت تقارير وبحوث تشير إلى دعوات لعدم عرقلة انتصار الثورة الإيرانية بقيادة الإمام الراحل الخميني والتخلي عن الصديق والحليف المخلص الشاه الذي خرج مشرداً لم تقبل الولايات المتحدة والدول الغربية استقباله. فتطوع الرئيس المصري الراحل أنور السادات بالترحيب به ورعايته ومنحه حق اللجوء في مصر. وتدعو هذه التقارير، التي كشف النقاب عنها في الكونغرس، إلى تشجيع ما جرى لأن هذه السياسة ستؤدي إلى تقسيم العالم الإسلامي ووقوع المسلمين السنّة والشيعة في فخ حروب إلى أبد الآبدين (كما ورد في النص الملخص).

&

والمؤسف أن العرب والمسلمين سقطوا في هذا الفخ، بل شاركوا في تنفيذ مآربه وقبلوا بأن يلعبوا دور «المفعول به» بدلاً من أن يمسكوا بزمام أمورهم ويلعبوا دور الفاعل للرد على المؤامرات. وما تعيشه المنطقة اليوم ما هو الإ بداعي اشتعال حروب الفتن، والآتي أعظم إذا لم يبادروا فوراً إلى التصدي لها وإطفاء اللهيب الذي يعتمر في الصدور والعقول.

&

هذه البانوراما الدرامية تدعو إلى التشاؤم وتؤكد أن ما بعد هذه الحوادث لن يكون أبداً كما كان قبلها، وأن كل الصيغ والتفاهمات السرية والعلنية قد سقطت، وأن كل شيء قابل للتعديل، بل وحتى للنسف ومسح الخرائط من معاهدة يالطا بعد الحرب العالمية الثانية التي تقاسم فيها الغرب والشرق مناطق النفوذ في المنطقة إلى اتفاقية «سايكس - بيكو» بين بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، والتي وضعت خرائط عشوائية للدول العربية رسمت فيها حدود ومناطق نفوذ الدولتين إلى أن أقدمت الولايات المتحدة عام ١٩٥٦على فرض هيمنتها وأخذ حصتها بالقوة.

&

ومع سقوط هذه الصيغ التي بقيت صامدة قرناً من الزمان، على رغم أن المخططين زرعوا ألغاماً وسواعد تفجير جاهزة في قلب كل دولة، وفرضوا تعقيدات دينية وطائفية وعرقية وقبلية متشابكة ومعدة للإنفجار في أية لحظة. كما نشهد هذه الأيام ونسمع أحاديث التقسيم وبخاصة في سورية والعراق.

&

وعلى رغم هذه الزلازل التي تهز المنطقة، فإن اللافت للنظر أن المستفيد الأكبر منها هو إسرائيل التي تسرح وتمرح وتضم الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتقيم المزيد من المستعمرات الاستيطانية. لكن السؤال المنطقي هو: إلى متى ستنعم إسرائيل بالأمن والبعد عن لهيب النيران؟ وهل سيأتي اليوم الذي ستحرق فيه أصابعها وتضطر للرضوخ لحتمية التاريخ والقبول بالحل السلمي العادل والشامل لمنع انهيارها الحتمي في حال تغيرت الأحوال وتبدلت التوازنات.

&

أما الخاسر الأكبر من هذه الفوضى، غير الخلاقة، فهي الأمم المتحدة. فبعد سبعين سنة على قيامها لا يمكن وصف ما وصلت إليه إلا بكلمتين معبرتين: الفشل والشلل. فلا هي نجحت في وقف الحروب وحل الأزمات، ولا هي في موقع الإمساك بزمام الأمور وامتلاك القدرة والصلاحيات التي تخولها فرض تنفيذ القرارات التي تعد بالآلاف. فقد حوّلها أصحاب الحل والربط (الدول الكبرى) إلى شاهد زور ومنظمة منزوعة الصلاحيات تعيش حالة عجز كامل وعدم قدرة على مواجهة تسلطها، ولا سيما أميركا وروسيا اللتين تتبادلان الأدوار في منع صدور القرارات أو عرقلة تنفيذها.

&

والعرب هم الذين دفعوا الأثمان الباهظة لهذا الشلل من دمائهم وأراضيهم وحقوقهم وحاضرهم ومستقبلهم، على رغم خداعهم بقرارات صادرة عن مجلس الأمن أو الجمعية العامة، وجرى دفنها قبل أن يجف حبرها، أو جرى رميها في سلة المهملات أو في أدراج الأمين العام، العبد المأمور، الذي لم يبق له في عهد بان كي مون سوى الدموع والإعراب عن القلق بعد كل حرب أو أزمة.

&

ونالت قضية فلسطين السهام الأكثر من مئات القرارات المجمدة، من قرار التقسيم بعد ارتكاب الجريمة التاريخية الكبرى الموصومة بالاعتراف بالكيان الإسرائيلي الغاصب عام ١٩٤٨ والاستمرار في دعمه وتغطية جرائمه وانتهاكاته حقوق الإنسان إلى القرارات ٢٤٢ و٣٣٨ وغيرها بعد النكبة الثانية عام ١٩٦٧، ما أدى إلى دوام الاحتلال الغاشم لأكثر من ٦٧ سنة. وحتى المنظمات الإنسانية التابعة لها مثل الأونروا لم تقدم للاجئين الذي يعيشون في مخيمات الذل طوال هذه الفترة إلا الفتات، وها هي الآن تقلص خدماتها وتقف على حافة الإفلاس.

&

ولبنان بدوره عانى من ظلم المجتمع الدولي وعدم القدرة على تنفيذ القرارات الدولية التي تعد بالعشرات، وبينها القراران ٤٢٥ و١٧٠١. وقد فشلت الأمم المتحدة في تنفيذ الأول لتأخذ المقاومة اللبنانية المبادرة لإرغام إسرائيل على الانسحاب. أما الثاني، فنفذ جزء منه وعجزت المنظمة عن إرغام إسرائيل على الانسحاب من قرية الغجر اللبنانية ومزارع شبعا.

&

أما العراق، فقد عانى الأمرّين خلال الحرب مع إيران وبعد الغزو الأميركي بسبب فشل الأمم المتحدة او لتغطيتها الاحتلال غير الشرعي. ومن بعدها عانت سورية وليبيا واليمن والصومال وقضية الصحراء المغربية بسبب العجز والمماطلة وعدم التصدي للواقع ووقف شلالات الدم الناجمة عن الحروب والنزاعات، فيما يمكن التأكيد أن الحلول جاءت من خارجها عبر تفاهمات دولية أو باتفاق بين أميركا وروسيا أو بمبادرات عربية، مثل اتفاق الطائف الذي رعته السعودية لوقف الحرب اللبنانية التي استمرت أكثر من ١٥ سنة.

&

من هنا، لا بد من التصدي لهذا التخاذل وتوحيد المواقف العربية وتجميع القوى لفرض قيام منظمة دولية جديدة تتمتع بصلاحيات كاملة لا تفرق بين الدول ولا تنحاز إلى طرف، وقبل كل شيء لا تسمح بفيتو معرقل للقرارات، وفق مصالح الدول الكبرى.

&

فبعد ٧٠ سنة من الشلل والفشل، لا شيء يبقى من النظام العالمي القديم ومنظمته الدولية سوى راية تحمل اسم الشرعية زوراً، ومبنى يلجأ إليه الضعفاء لرفع العتب، «وتكية لتنابلة السلطان» الذين ينفقون من أموال البؤساء من ضحايا الحروب، ووسيلة للفساد المستشري من تحت إلى فوق.

&

أما العرب، فلم يجدوا في الأمم المتحدة سوى حائط مبكى... ومصلحة تسجيل مواقف ووقائع، على أمل أن يأتي يوم تنتصر فيه الشرعية وتسود فيه العدالة الدولية، وهو أمل يشبه جدولاً لا ماء فيه!
&