&عبدالحميد الأنصاري

& على امتداد الـ "15" سنة السابقة كتبت العشرات من المقالات التي تناولت الظاهرة الإرهابية، وشخصت عللها والعوامل التي ساعدت قي انتشارها، لقد بينت في هذه المقالات أن الإرهاب فكر لكنه عدواني، وهو مرض لكنه يصيب النفس ويميت القلب ويعدم المشاعر الإنسانية، وبيئة حاضنة لكنها كئيبة وبائسة ومحبطة، وهذا الفكر العدواني المريض وتلك النفسية المأزومة أساسهما التنشئة الأسرية الأولى غير السوية، وخبرات الطفولة القاسية التي ترسخت في نفسية الطفل ووجدانه خلال السنوات الست الأولى من عمره، في بيت مفكك بسبب أب لاهٍ يجري وراء نزواته ويهمل بيته، أو مزواج معدد لا يتقي الله تعالى ولا يعدل بين زوجاته.
فنظرة سريعة على القوائم الإرهابية السبع المتورطة في الأعمال الإرهابية التي أصدرتها السلطات الأمنية السعودية، تباعاً على مدار (12) عاماً، تؤكد بوضوح أن التربية غير السوية هي التي تهيئ نفسية مأزومة، قابلة للتطرف، ومبرمجة عليها، مصداقا لنظرية المفكر السعودي البليهي "العقل يحتله الأسبق إليه"، بل إن تقريراً نشرته صحيفة "الحياة" من مراسلها في الرياض عيسى الشاماني بين أن أصغر إرهابي يتم القبض عليه في المملكة، صبي لا يتجاوز (15) عاماً، نشأ في أسرة جميع أفرادها داعشيون، فأخته داعشية موقوفة، وأشقاؤه داعشيون قتلوا في مواجهات أمنية، وانتحاري مسجد القديح أبوه داعشي موقوف وله قريب انتحاري.
بمعنى أن الفكر الإرهابي يتم توارثه جيلاً بعد جيل، كما يتم احتضانه ليربى عليه أطفال جدد في المرحلة المبكرة من أعمارهم، فيترسخ في نفوسهم حب العدوان وكراهية الآخر وتكفيره إلى حد تصفية مصلين في بيوت الله تعالى، ومن يراجع تغريدات صالح القشعمي، انتحاري مسجد الإمام علي في القديح، يجد نفسية مأزومة، تكره الحياة والنَّاس، وتكفر من ليس داعشياً، وتعشق الموت عبر تفجير الذات وتسميه جهاداً واستشهاداً شوقا إلى "الحور".


لقد قلنا وكررنا وأكدنا أن أصل وأساس الإرهاب الفهم الضال للجهاد، وأن هذا الفهم سيستمر ويفرز مزيداً من الشباب الصغار الانتحاريين، الذين ضَل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وأنه لا حل للظاهرة الإرهابية إلا بتفكيك مفهوم الجهاد في المناهج الدراسية، وتدريسه بما يتفق وطبيعة العصر والعلاقات الدولية، وهذه مهمة دولنا وحكوماتنا، ومسؤوليتها الأساسية عن تدريس مفهوم الجهاد وإعادة توصيفه بما يتفق ومنطق العصر لا بالمفهوم الفقهي التراثي الذي ناسب عصر الإمبراطوريات قديماً.


علينا تدريس طلابنا أن الجهاد بالنسبة إليهم هو جهادهم في ميادين العلم والتنمية والابتكار لخدمة دينهم ووطنهم، وأن الجهاد بالمعنى العسكري هو من مهمة الجيش النظامي وحده، لا من شأن الأفراد أو الميليشيات أو مشايخ "حي على الجهاد"، وعلى دولنا مساءلة من يحرض أولادنا على الجهاد ويغرر بهم ويتسبب في هلاكهم، في حين يقعد هو وأولاده ها هنا ناعمين!
ذكرت وأكدت أنه لا توجد علاقة بين الإرهاب والإصلاح السياسي والاقتصادي- خلافاً لمذهب أوباما والليبراليين العرب الذين يربطون الإرهاب بعدم الإصلاح وغياب الديمقراطية- لأن الإرهابيين أصلاً ليسوا طلاب إصلاح، ولأنهم يعادون الديمقراطية، بل إنهم استغلوا مناخ الحريات عقب الربيع لنشر الإرهاب وتجميع صفوفه، ليعود بشكل أكبر ضراوة ووحشية.
كما لأنه لم يثبت وجود رابط بين الإرهاب والفقر أو البطالة أو سوء توزيع الثروة، فشعوب عديدة تعاني أوضاعاً اقتصادية خانقة أشد منا، ولم تنتج إرهاباً ولا إرهابيين! ولا علاقة للإرهاب بمظالم الغرب ولا بقضية فلسطين ولا بالاحتلال الأميركي للعراق، فهذه حجج ذرائعية لتضليل الشباب وتجنيدهم، أشبه بـ"قميص عثمان".


نعم، هذه الأوضاع السيئة، وتلك المظالم المستفزة، قد تنجح تمرداً أو نقمة أو تذمراً، وقد تدفع شباباً للتخريب والفوضى انتقاماً من النظام المتسلط، وقد تحفز بعض الأقليات للمطالبة بالانفصال والحكم الذاتي، حماية لهويتها، لكنها لا تنتج إرهاباً، فالإرهاب عقيدة عدوانية متسلطة على عقل صاحبها ونفسيته، تدفعه لكراهية الآخر وتفجيره، باعتباره عملاً جهادياً مأجورا عليه!
ختاماً: اليوم يأتي "تقرير الإرهاب العالمي" لعام 2014 حول وضع الإرهاب في (162) دولة، خلال 2013-2000 والصادر من "معهد الاقتصاد والسلام" بالتعاون مع "الائتلاف الوطني لدراسة الإرهاب" بجامعة ميريلاند، ليؤكد ما أسلفناه، وليقول بوضوح: لا توجد رابطة منتظمة بين الفقر أو الكثير من عوامل التنمية والإرهاب، كما أنه من بين آلاف المؤشرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والسلوكية التي جرى تحليلها، فإن نظام الحكم لم يكن هو القضية، إنما درجة الاستقرار السياسي، وعلاقته بتماسك الجماعة الوطنية ومدى انقسامها الطائفي أو العرقي أو الإقليمي، كما يشير التقرير إلى أنه رغم وجود حركات انفصالية في الدولة، كان السبب الرئيسي للإرهاب عام 2000، فإن الدين سرعان ما دخل في إطار المنافسة حتى تفوق عليها وعلى كل العوامل السياسية في الشرق الأوسط وفي شمال إفريقيا، وأصبح وراء أكثر من 80% من العمليات الإرهابية، ومسؤوليتنا الأساسية اليوم استعادة الدين من خاطفيه كأولوية أولى طبقاً لعبدالمنعم سعيد.