عادل درويش

عندما يكون الصدق مشكلة لصاحبه ويصبح الكذب (أبيض كان أو أسود أو تكنيكلور) السائد لإرضاء تيارات سيطرت على مزاج المجتمع، رغم أن المؤسسات الاجتماعية (المدرسة، الأسرة، رجال الدين) تعلم الأطفال قول الصدق (قبل أن يفسد التحديث الأخلاقيات ويسود القبح على الجمال) كان التلميذ الصغير يعاقب أحيانا بالضرب بالمسطرة على الأيدي أو الحرمان من مصروف الجيب أو الذهاب للبلاج صيفا إذا ضبط متلبسا بالكذب حول قطعة شوكولاته أخفاها عن شقيقته.


انعكست الآية وأصبح مجتمع الكبار محيط النفاق والكذب، مما يحير الصغار الذين يرون الدنيا بمنظار البراءة الأبيض والأسود فقط، ولا يعرفون التعقيدات التي يسوقها مجتمع الكبار لتبرير الكذب.


الصدق كان كارثة على عالم نابغة في مجال البيولوجيا والطب وأبحاث السرطان، وفائز بجائزة نوبل في أبحاث آلية انقسام الخلايا، فكافأته الملكة بمنحه لقب فارس.. السير تيموثي هنت، بروفسور البحوث الطبية في إحدى كبريات جامعات إنجلترا الذي اضطر للاستقالة من منصبه، وحرم مجال العلوم والبحوث الطبية من خبرته وإنجازاته، ليس لخطأ علمي أو طبي أو حتى أخلاقي ارتكبه، بل لصدقه فيما لاحظه كحقائق.
استقال بضغوط في حملة ذكرتنا بحملات تفتيش القرون الوسطيى واتهام الخصوم بالسحر والشعوذة ومعاقبتهم بالحرق أو الغرق للتخلص منهم.


حملة شنها اليسار المهووس آيديولوجيا والنسويات المسعورات بعضة الآيديولوجيا النسوية feminism (وهي ليست حركة مساواة بقدر ما هي دعوة للتفوق على الرجال وإخضاعهم لحد إنكار بعضهن للفروق البيولوجية الطبيعية وادعاء أن السلالة البشرية ليست في حاجة إلى الرجال للاستمرار والبقاء).


الحكاية أن البروفسور هنت، حامل جائزة نوبل، كان ضمن لجنة في حلقة نقاشية في كوريا الجنوبية للصحافة النسائية في مجال العلوم. وجد نفسه في قاعة مكتظة بصحافيات مهتمات بمجال العلوم والأبحاث الطبية.


شخصية البروفسور المتعبد في محراب العلم التي تقدمها السينما وكتاب الكوميديا كشخصية منعزلة ساذجة لا دراية لها بالأمور العملية في الدنيا هي مبالغة كاريكاتيرية لشخصية واقعية بالفعل، فليس لهؤلاء البروفسورات خبرة حقيقية بالحياة اليومية خارج معمل البحوث أو خارج مكتبة يعلو أرففها التراب مكتظة بمجلدات يدفنون رؤوسهم فيها (ولي خبرة واقعية في هذا المجال، فحماي الغالي أحد هؤلاء البروفسورات، وكم نهرع لإنقاذه من ورطات لا يقع فيها مراهق في الخامسة عشرة بسبب عدم خبرته بواقع الحياة العملية، وأذكر عند التقدم لطلب يد ابنته أن مسوغات موافقته كانت مؤهلاتي كمؤلف كتب معترف به بين مؤرخي بريطانيا، ولم يكترث بما إذا كان بقدرتي المالية توفير عيش كريم لابنته!).


البروفسور هنت موضوع هذا المقال ينتمي لهذا النوع، وكل همه خدمة العلم والبحث. المسكين قال له أحدهم إن الطريق إلى قلب الصحافيين هو عبر نافذة ضيقة في روح دعاباتهم.. وفاته أنه كرجل يواجه مجموعة صحافية مؤدلجة بمعاداة الرجال.. البروفسور مزج الفكاهة بروح الدعابة مع حقائق جمعها من خبرته العملية كعالم يتعامل فقط مع الوقائع التي يمكن إثباتها علميا.


كان البروفسور يجيب عن سؤال: لماذا اقترح في ورقة بحث للجامعة الفصل بين الجنسين في بعض معامل البحوث؟
في إجابة حاول أن يكون فيها خفيف الظل داعب الحضور (وأغلبهم نسوة مؤدلجات) بقوله من خبرة عقود طويلة إن الاختلاط في المعمل لساعات طويلة منعزلة عن العالم الخارجي يخلق روابط عاطفية قد تنتهي بارتباطات زواج أو بانفصال وقلوب محطمة. وحتى الزيجات لم تتم للأسباب الاجتماعية المعروفة المتعددة أو الحب الحقيقي، وإنما لسبب واحد هو الوحدة القاتلة، خاصة أن طرفي الحب لا يجمعهما أي صفات مشتركة أو مزاج، ولا يعرف بعضهما بعضا خارج المعمل، والعلاقة أو الزواج ينتهيان بالفشل.


وتفسير البروفسور أن العلم والبحوث العلمية يجب أن تتعامل مع وقائع وتجارب عملية خالية من العواطف التي تفسد البحث العلمي. أضاف البروفسور أن استجابة النساء للنقد العلمي للبحوث تختلف عن استجابة الرجال، وعند مناقشة أي أخطاء في بحث أجرته نساء، يعتبرن ذلك انتقادا شخصيا لهن، ويجهشن بالبكاء.


هوجم الرجل ببشاعة وكأنه ديكتاتور جر بلاده إلى حرب، أو كسفاح يقتل الأطفال.. لم يقتصر الهجوم على وسائل التواصل الاجتماعي، بل وصلته تهديدات من الحركات النسوية والاشتراكيين.
الـ«بي بي سي» والصحافة اليسارية التي شنت حملة (لا تزال مستمرة حتى ساعة كتابة هذه السطور) مطالبة برأس البروفسور على صينية صدئة لم تطرح السؤال الأساسي: إذا كان المؤتمر عن تفوق النساء واتهام الرجال بسد طريق النجاح العلمي أمامهن، فلماذا دعون رجلا لإلقاء كلمة في حشد كله نسائي؟
اليسار هاجمه كمسؤول عما اعتبرته النسويات تراجعا في المكاسب التي حققتها المرأة، وسدا منيعا أمام وجود المزيد من النساء في مجال البحوث العلمية.


ورغم اعتذار البروفسور هنت علنا عما إذا كانت دعابته أساءت للبعض دون قصد، وشرحه الحقائق العلمية وراء فكرة فصل الجنسين في بعض المختبرات، فإن الحملة لم تنتهِ، واضطرته الجامعة التي يعمل بها إلى الاستقالة.
الحملة ضد البروفسور استمرت حتى بعد استقالته، كمدخل جديد لمهاجمة اليسار لما سموه سيطرة الرجال على المجتمع الذكوري الذي لا يسمح للنساء بأعمال متفوقة مساوية للرجال.


المفارقة أن نشرة الـ«بي بي سي» التي كانت أكثر قسوة في الهجوم على البروفسور على لسان النسويات المشاركات قدمتها مذيعتان، ومحررة النشرة امرأة، ومديرة إعداد البرنامج امرأة.


الطريف أنه في نشرة أخبار واحدة فقط استضافت الـ«بي بي سي» البروفسورة فاليري بيرال، وهي من المتفوقات في أبحاث علاج السرطان ومنحتها الملكة لقب ديم dame المقابل النسائي للقب «سير» مكافأة لإنجازاتها العلمية. كانت البروفسورة، ابنة التاسعة والستين عاما، هي الشاهد الوحيد الذي تكلم الحق، مؤكدة صحة ما قاله البروفسور هنت بشأن سلبية استجابة النساء للنقد الموضوعي العلمي.


طريقة معالجة الصحافة مثيرة للاهتمام. صحافة الوسط واليمين تحاول اتخاذ موقف محايد، ولا تجرؤ على الدفاع عن البروفسور الصادق. صحافة اليسار تجعلك تخرج باستنتاج أن ما يسمى بالتمييز الإيجابي (أي الانحياز للمرأة والأقليات) والتصحيح السياسي الاجتماعي، هو نفاق لإرضاء تيارات عالية الصوت تهاجم كل من يخالفها بتهمة الرجعية وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.


والسلطة الرابعة أصبحت مثل زوج مغلوب على أمره تسأله زوجته التي أصبحت كشجرة الجميز عما إذا كانت لا تزال في رشاقة باليرنا في باليه البولشوي، وفي جمال سندريلا، هل يقول لها الحقيقة أم ينافقها حتى تفوت ليلته على خير؟