جميل مطر

تسربت معلومات عن نقاش دار في اجتماعات الدورة الحادية عشرة للجنة الاستراتيجية الثلاثية التابعة لصندوق مارشال الألماني التي عقدت قبل أيام من إجراء الانتخابات البرلمانية في تركيا. عكست هذه المعلومات القلق الذي ينتاب الغرب، وبخاصة ألمانيا، على مستقبل تركيا. وفي الوقت نفسه ورغم التحولات العميقة في بعض الخرائط الاستراتيجية أكدت هذه المعلومات الأهمية الكبرى والمتجددة لتركيا في استراتيجيات الغرب. تأكدت مثلاً أهمية دور تركيا الجسر الذي وضع الغرب آماله عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ليوصل بين الشرق الأوسط والعالم الغربي . تأكدت كذلك الآمال المعقودة على مكانة لتركيا في أي نظام جديد لتوازن القوة في الشرق الأوسط، وبخاصة في ظروف ما بعد توقيع الاتفاق الدولي مع إيران. إنه الاتفاق الذي يعني في نظر الغرب على الأقل، الترخيص لإيران بأن تمارس دوراً في حفظ الاستقرار في الشرق الأوسط. كان الأمل، ولا يزال، أن تكون تركيا قوية ومستقرة وفاعلة عندما تتهيأ إيران للعب هذا الدور.

يلفت النظر من قراءة المعلومات التي نشرت عن تقرير اللجنة أو نقاشاتها التي انعقدت قبل إجراء الانتخابات أن نتائج الانتخابات بالشكل الذي خرجت به لم تكن لتفاجئ المتخصصين الغربيين في الشأن التركي، ولن تكون في الوقت نفسه محل رضاء صانعي السياسة في دول الغرب. كان واضحاً خلال الشهور وربما السنوات الأخيرة أن القوى الفاعلة في الغرب لم تكن مرتاحة لتصرفات عديدة مارستها حكومة أردوغان. كانت ترى في هذه التصرفات تهديداً لمبادئ «الجسر»، أي لمبادئ الدور المخصص لتركيا. لم تكن مرتاحة للأسلوب التركي في التدخل في ليبيا باعتبار أن هذا التدخل أساء إلى سمعة تركيا ومكانتها، أساء أيضاً إلى فرص تأهلها لدور قيادي بارز في صنع مستقبل جديد للشرق الأوسط. كذلك لم تكن مرتاحة لموقف الانحياز، إقليمياً ودولياً، ضد مصر، لأنها بهذا الموقف، ومواقف أخرى، اضطرت أن تظهر مدافعة عن قوى التطرف الديني وإقامة تحالفات غير منطقية وغير مناسبة لتركيا، كما رسمها الخيال الاستراتيجي الغربي.

بدت حكومة تركيا في ذلك الوقت ورغم التحذيرات المنمقة والهادئة من جانب دول أوروبية، كما لو كانت تكرر أخطاء الولايات المتحدة في المنطقة حين تدخلت طرفاً في صراعات الأقليات العرقية والدينية والمذهبية. كان خطأً جسيماً، كما جاء في المعلومات المتسربة عن اجتماع اللجنة الثلاثية، الوقوع في حبائل ما يسمى بالخلاف السني الشيعي. كان المأمول فيه أن تنجح تركيا في التعامل مستقبلاً مع خطر توسع فارسي في المنطقة العربية والمناطق الكردية من دون رفع شعارات مذهبية، أو الانزلاق في حروب دينية.

لم تكن اللجنة الثلاثية المكلفة بمناقشة الوضع في تركيا عشية الانتخابات، غافلة عن جوانب سلبية عديدة في الواقع التركي. كان معروفاً أن معدل النمو الاقتصادي يتراجع، وأن تجارة تركيا مع دول الشرق الأوسط وهي عصب تقدمها الحساس، تنحسر. كان معروفاً أيضاً أن حكومة أردوغان مستمرة في تعقيد العلاقات مع قبرص واليونان، عضوي الاتحاد الأوروبي، حول قضية غاز شرق المتوسط. لم يكن غائباً عن المسؤولين في دول الغرب، ولا عن المراقبين في دول الشرق الأوسط، واقع عدم الارتياح وتناقص الرضا بين فئات متعددة من الشعب التركي لأسباب متنوعة. تأتي في صدارة هذه الأسباب أحوال الفساد المتفشي في دوائر الدولة وبين بعض رجال الحزب الحاكم، ومنها أيضاً سلوكيات العظمة التي دأب على ممارستها أردوغان شخصياً وبخاصة في قضية القصر الرئاسي وقضايا أخرى متعلقة بتنفيذ مشروعات قومية باهظة التكلفة قليلة العائد مثل بناء «أعظم مطار في العالم». أضف إلى ما سبق المستوى الخطير الذي وصل إليه القمع في أوساط المثقفين والصحفيين وبخاصة خلال وبعد أحداث ميدان غازي.&

رغم الإدراك العام في دول الغرب بسلبيات الأداء الحكومي في تركيا، وحالة الإنهاك التي بدت بوضوح على زعامات الحزب الحاكم عشية إجراء الانتخابات بسبب التوتر الشديد في دوائر القيادة، جاءت النتائج مفاجئة للمسؤولين في تلك الدول، ناهيك عن مسؤولين عرب راهنوا على مستقبل تلعب فيه تركيا الأردوغانية دور الدولة القائد في المنطقة. لقد استطاع أردوغان على مدى ثلاثة عشر عاماً تفصل بين انتخابات ٢٠٠٢ وانتخابات ٢٠١٥، تحقيق ما عجزت عن تحقيقه حكومات تركية كثيرة. حقق استقراراً سياسياً لمدة طويلة بحساب السياسة في تركيا، وفاز لرابع مرة في انتخابات نظيفة على منافسين أقوياء. ونزع أنياب مؤسسات قوية في النظام السياسي التركي، ومنها الجيش. وأفلح في تسييس القضاء وغيره من أجهزة العدالة وفرض نظاماً شبه بوليسي يتدخل في أدق خصوصيات الناس ويقمع الحريات.

دخل أردوغان وحزبه الانتخابات مطمئنين إلى أن المعارضة منقسمة وضعيفة. وأن الأكراد وحلفاءهم لن يحققوا نسبة العشرة في المئة التي يفرضها الدستور على الأحزاب شرطاً لاحتلال مقاعد في البرلمان، فحصلوا على ١٢٪ مصوبين ضربة شديدة لأردوغان الذي كان يسعى إلى قرار بتحويل الجمهورية التركية من نظام برلماني إلى نظام رئاسي.

من المفاجآت أيضاً انكشاف مدى عمق واتساع الاستقطاب الشعبي واستقطاب النخب السياسية والحزبية. كان متوقعاً بناء على تجربتي الانتخابات السابقتين وبناء على خروج الجيش من العملية السياسية، أن المعارضة، والشعب عموماً، لن يتعامل بانفعال شديد مع نتائج الانتخابات. إلا أنه يبدو من واقع الأحوال بعد إعلان النتائج أن الانفعال قد وقع فعلاً. كان دافعاً للسخرية ومثيراً، مثيراً لنا بشكل خاص كمتابعين من مصر والعالم العربي، خروج أنصار الحزب الحاكم، وأردوغان شخصياً، بقصة المؤامرة الخارجية. قرأنا عن إلقاء تبعة الفشل على مؤامرة لإسقاط نظام حكم حزب العدالة والتنمية، خططت لها ونفذتها الجهات التالية: «إسرائيل»، الانفصاليون الأكراد، الشتات الأرمني، محطة الإذاعة البريطانية وجورج سوروس وصحيفة «نيويورك تايمز» ومجلة «الإيكونومست». ولإحكام الحبكة يقول المنظرون لقصة المؤامرة إن وراء هذا التحالف «عقل جبار» هو العقل نفسه الذي خطط لتفجير برجي التجارة في نيويورك في عام 2001، وهو الذي خطط لإبادة الهنود الحمر في القارة الأمريكية، وهو نفسه الذي خطط ونفذ تظاهرات ميدان غازي في اسطنبول. الهدف طبعاً كما في نماذج شرق أوسطية أخرى هو تدمير الدولة. وكالعادة في انتخابات دول الشرق الأوسط، وسياساتها عموماً، اتهم الحزب الحاكم المعارضة بخيانة الوطن، وبأنها تسعى إلى إعادة تركيا إلى العصر البيزنطي، بمعنى أنها تحاول شن حرب «صليبية» ضد الحكومة الإسلامية في أنقرة، وأن الأكراد يلعبون في هذه المؤامرة دوراً أساسياً. وسمعنا من يقول أن المنطقة تعود لتكرار ما وقع قبل خمسة عشر قرناً حين تصاعد الصراع بين القطبين الأعظم، إمبراطوريتا بيزنطة وفارس، وتسابقتا لاحتلال شبه الجزيرة العربية، وما هذه النتائج سوى قطرة في تيار غربي جارف يمالئ إيران على حساب تركيا في سباقهما على النفوذ. التوقعات بالنسبة للمستقبل عديدة ومتناقضة، وأغلبها يعتمد على هدوء أو عصبية أردوغان وتغليبه أو تصغيره المصلحة الوطنية على مصلحته وطموحاته الشخصية ومصالح الجماعات النافذة في الحزب.

يعتقد معلقون في الغرب وبخاصة في ألمانيا أن أردوغان لن يتنازل عن مشروعه تحويل منصب الرئاسة إلى موقع لحاكم فرد، وربما مستبد، لاعتقاده أنه الشخص الوحيد المؤهل سياسياً والمدعوم إلهيا؟؟؟ لقيادة تركيا لتحتل مكانة متقدمة بين عشر أقوى اقتصادات في العالم ولتحتل المكانة الرائدة في منطقة الشرق الأوسط. بمعنى آخر قد يلجأ الرئيس التركي إلى أساليب تمنع تشكيل حكومة ائتلافية بأمل العودة إلى الناخبين في انتخابات جديدة للحصول لحزبه على أغلبية تسمح له بتعديل الدستور، أو اللجوء إلى استفتاء شعبي. من ناحية أخرى، سمعنا توقعات تنبئ بأن العلاقات بين قادة الحزب الحاكم سوف تزداد توتراً تحت ضغط أردوغان شخصياً، رغم أنه لم يعد عضواً في الحزب، وتحت ضغط تدخلاته اليومية في شؤون الحزب والحكم، رغم أنه لم يحصل بعد على التفويض برئاسة مطلقة وغير مقيدة. لذلك يسود أنقرة التوقع أن يلجأ أردوغان إلى استغلال قضية أو أزمة يعلن بسببها حالة طوارئ ويتولى سلطات استثنائية كتلك التي يسعى لتحقيقها من تعديل الدستور.

أياً كانت التوقعات، تبقى محل نقاش عميق ومكثف فكرة أن تركيا بعد هذه الانتخابات لن تكون مثل تركيا قبلها. لن يعود الوفاق إلى الشارع التركي، وقد لا يعود الأكراد والأتراك إلى التفاوض من أجل سلام دائم في تركيا، وقد تضطر تركيا، بقيادة أردوغان أو غيره، إلى دفع ثمن باهظ للأخطاء التي ارتكبتها حكومة أردوغان حين دعمت بالمال ووسائل أخرى جيوش الإرهاب الإسلامي. كان يجب التعلم من تجارب الآخرين في المنطقة وفي دول الغرب أن دعم الإرهاب يعود وبالاً على الداعمين إن عاجلاً أو آجلاً.