كمال بالهادي

المطّلع على تاريخ العلاقات الليبية - التونسية، سيجد الكثير من تفاصيل التوتر، رغم حرص الجانب التونسي على عدم الإضرار بالدولة الشقيقة. لكن الوقائع تثبت أيضاً أن الجانب الليبي، كان يتجاوز الحدود والأعراف الدبلوماسية ويتدخل في الشأن التونسي ويضرّ بالتاريخ النضالي المشترك زمن الاحتلاليْن الفرنسي والإيطالي لكل من تونس وليبيا..

الاعتداءات المتكررة من قبل الميليشيات المسلحة، على التونسيين المقيمين في ليبيا سواء كانوا من العمال أو من الدبلوماسيين، تثير الشعور بالغضب في تونس، وتدفع نحو ردّات فعل قد لا تكون مسيطراً عليها مستقبلاً. وقد تسهم في نشر حريق الفوضى إلى كل منطقة المغرب العربي. وحادثة اختطاف عشرة دبلوماسيين، من القنصلية العامة لتونس في طرابلس، تأتي بعد حادثة احتجاز نحو مئة عامل لعدة أيام ومعاملتهم بأبشع الطرق، هذا فضلاً عن اختطاف صحفيين لا يعرف مصيرهما الحقيقي إلى الآن، وكذلك اختطاف موظفيْن في السفارة التونسية في ليبيا وإطلاق سراحهما بعد أشهر من الاحتجاز.

غضب متصاعد رغم سياسة ضبط النفس التي تتوخاها الحكومة التونسية وكذلك وسائل الإعلام التونسية، تجاه الجارة ليبيا، على حوادث الاختطاف المتكررة وعلى سوء المعاملة التي يتعرض لها التونسيون المقيمون في ليبيا، إلا أنّ استمرار هذه الحوادث من شأنه أن يدفع إلى انفلات الأمور. فالواقع يثبت أن ليبيا باتت تمثل مصدر إزعاج كبير لتونس. وقد لا تتحمل السلطات الليبية مسؤولية ذلك، لكن الواقع يثبت أن ليبيا هي مصدر الأسلحة التي تستخدم في كل العمليات الإرهابية التي حدثت في تونس، وليبيا هي ملجأ الفارين من العدالة التونسية وملجأ العصابات الإرهابية التي تتخذ من المدن الليبية مخابئ ومراكز للتدريب، وقاعدة لتسفير الإرهابيين التونسيين إلى مواقع القتال في سوريا والعراق، ومن ثمة العودة إلى تونس لتشكيل خلايا إرهابية. هناك في واقع الأمر غضب متبادل بين تونس وليبيا، فالسلطات التي تحكم طرابلس سبق أن أغلقت معبر رأس الجدير الحدودي، بعد أن فرضت تونس ضريبة «مغادرة البلاد» على الأجانب، وقرر الجانب الليبي المعاملة بالمثل لكن هل يمكن للتونسيين أن يصبروا أكثر على مثل هذه المعاملات؟

يدرك المسؤولون في تونس أن غياب الدولة في طرابلس يجعلها لا تحمل المسؤولية الرسمية عن هذه الأفعال إلى الدولة الليبية، ويدرك المسؤولون أن أي تصعيد تجاه الطرف الليبي من شأنه أن يزيد الأوضاع تعقيداً، بالنظر إلى وجود جالية تونسية كبرى في ليبيا ويمكن أن تتأذى من سلوك الميليشيات المنفلت. الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً دانت الاعتداءات المتكررة على التونسيين، ومثلها فعل مجلس زعماء القبائل الليبية الذي اعتبر أن سلوك ميليشيات فجر ليبيا هو ابتزاز للدولة التونسية، من أجل الضغط عليها حتى تستجيب لمطالب إطلاق سراح الليبيين المتهمين بالإرهاب في تونس وعلى رأسهم وليد القليب القيادي في «فجر ليبيا». ورغم كل هذه الاستفزازات إلا أن المسؤولين التونسيين لا يرددون إلا عبارة واحدة وهي عدم التدخل في الشأن الليبي إلا بما تتطلبه المصلحة الليبية من دعم لخطة السلام التي تعرضها الأمم المتحدة على الفرقاء الليبيين من أجل تشكيل حكومة وحدة وطنية. والغريب في الأمر أن بعض السياسيين وعلى رأسهم راشد الغنوشي يعتبرون أن «فجر ليبيا» درع واقية لتونس من«الدواعش»، لكن «فجر ليبيا» تهدد بإغلاق الحدود وتتوعد بمزيد من اختطاف التونسيين، في إهانة واضحة لتونس ولما قدمته من جهود إبان الانتفاضة الليبية ولما تقدمه إلى حد الآن من حسن استضافة لليبيين الذين يبلغ تعدادهم نحو مليوني ليبي يعيشون في تونس ويتقاسمون مع التونسيين المواد المدعمة التي تخصص من موازنة الدولة..&

طريق خاطئة&

إذا كان الليبيون يعتقدون أن سكوت التونسيين على ما يلحقهم من ضرر فهم مخطئون، وإن كانوا يعتقدون أن الصمت سيتواصل فهم مخطئون أيضاً، لأن الأمور قد تنفلت، إن تواصلت الإهانات للتونسيين والاعتداءات عليهم. وعليه فإن السير في هذه الطريق الخاطئة يجب أن يراجع من طرف «فجر ليبيا». توجد أطراف عدة تدفع نحو خلق أزمة بين حكومتي طرابلس وتونس، ويهمها أن تكون هناك فوضى جديدة في المنطقة حتى تستطيع أن تنفذ كل مخططاتها. ويهمها أن يقع اقتتال بين التونسيين والليبيين، حتى تتمكن من المرور إلى مراحل جديدة من نشر الفوضى في منطقة المغرب العربي ككل. لكن الحكمة التونسية نجحت إلى حد الآن في إخماد نار حريق سيلتهم المغرب العربي، والحكمة التونسية تنجح إلى حد الآن في تفادي الوقوع في الفخ الذي يراد لها أن تقع فيه.&

وبما أن تونس لا تعتبر إلى حد الآن ميليشيا «فجر ليبيا» ميليشيا إرهابية، فإن مواصلة احتضانها للإرهابيين التونسيين، وتقديم الدعم لهم ومواصلة التدخل في الشأن التونسي والإضرار بالمصالح التونسية، سيدفع الدبلوماسية التونسية إلى اتخاذ مواقف أكثر حزماً تجاه هذه الميليشيا. لأن التلاعب بأمن المنطقة، بات خطاً أحمر بالنسبة لدول جوار ليبيا، ولعل الأذى الذي لحق بالعمال المصريين عندما تم نحرهم من قبل «داعش ليبيا» والذي يتعرض له التونسيون من طرف «فجر ليبيا» والأذى الذي يتربص بالجزائر، هي كلها محاولات لجرّ المنطقة لحروب مدمرة. وهذا ما لا تقبله دول الجوار، وهي مستعدة للتحرك إن نفد صبرها عن هذه الممارسات.&

لا أحد يريد لليبيا أن تغرق أكثر في هذه الصراعات التي دمرت مؤسساتها، ولا أحد من مصلحته أن يستمر الوضع الليبي على ما هو عليه الآن من انفلات شامل، وعليه فإن المصالح المشتركة لدول منطقة المغرب العربي تقتضي العمل المشترك من أجل إعادة الروح للدولة الليبية.&

وتقوم الجزائر والمغرب باحتضان مفاوضات بين الفاعلين السياسيين، وتقوم مصر بجمع القبائل الليبية على كلمة سواء، فيما تتحمل تونس الوزر الاجتماعي الأكبر ، وتتحمل كذلك النتائج الخطرة للانفلات الأمني هناك. وما على الليبيين وعلى اختلاف انتماءاتهم إلا أن يدركوا حجم التضحيات التي يتحملها الجيران نتيجة نزاعاتهم الداخلية، لا أن يواصلوا فرض علاقات غير سوية سيتضرر منها الجميع مستقبلاً.