محمد العسومي

وضعت تركيا نفسها بقوة على المسرح الدولي بفضل النقلة الاقتصادية التي حققتها في الاثني عشر عاماً الماضية والتي تحولت معها تركيا إلى واحدة من أكبر عشرين اقتصاداً في العالم لتحتل المرتبة السادسة عشرة في الاقتصاد العالمي، ولتنضم إلى مجموعة العشرين التي أضحت تحدد العديد من المسارات الاقتصادية وترسم الخطوط العامة للسياسات المتبعة في الشأن الدولي.

ومنذ عام 2002 تضاعف الناتج المحلي الإجمالي أكثر من ثلاث مرات ليصل إلى تريليون دولار، وكذلك حصة الفرد من الدخل القومي، والتي ارتفعت من 3.5 ألف دولار إلى 12 ألف دولار في الفترة نفسها، وتدفقت استثمارات أجنبية هائلة، وتم تطوير القوانين والأنظمة الخاصة بالاستثمار والإعلان عن تنفيذ مشاريع عملاقة في البنى التحتية، من ضمنها مشروع المطار الجديد بتكلفة تصل إلى 20 مليار دولار وشق قناة جديدة تربط البحرين الأبيض بالأسود كبديل لمضيق البوسفور، على اعتبار أن تركيا لا يمكنها وفق اتفاقية استسلامها في الحرب العالمية الأولى أن تتقاضي أية رسوم في ممر البوسفور، تلك الاتفاقية التي تنتهي في عام، 2023، والتي تتزامن مع الذكرى الأولى لإلغاء الخلافة.

كل هذه الانجازات الاقتصادية رفعت من رصيد الرئيس أردوغان حتى بات من المتعذر تصور خسارة حزب "العدالة والتنمية" أية انتخابات أو استفتاءات عامة، إلا أن سلسلة من الأخطاء والحماقات السياسية الداخلية والخارجية أطاحت بكل تلك الهالة التي تولدت عن الطفرة الاقتصادية.

ويعتبر أردوغان المسؤول الأول عن الانتكاسة التي تعرض لها حزبه في الانتخابات التي جرت بداية شهر يونيو الجاري، والتي لم يتمكن خلالها من الحصول على الأغلبية المطلقة كما هو الحال منذ أكثر من عقد من الزمن، إذ لم تتجاوز الأصوات التي حصل عليها نسبة 41%.

أول هذه الأخطاء تبنى أردوغان لجماعة الإخوان المسلمين المتطرفة التي تعمل على زعزعة استقرار العديد من الدول العربية، وبالأخص مصر ودول الخليج العربي وتحويل تركيا إلى مقر عالمي لهذه الجماعة، مما أدى إلى تدهور علاقاتها مع الدول العربية وسحب استثمارات أجنبية كبيرة، من ضمنها خليجية بأكثر من 15 مليار دولار مخصصة لتنفيذ مشاريع مهمة للاقتصاد التركي في مجالات الطاقة والبنية التحتية، بالإضافة إلى التراجع في العديد من مجالات التعاون المشترك والتجارة، وهو مما ألحق الضرر بالقطاعين العام والخاص في تركيا، وذلك إضافة إلى الانغماس بصورة مبالغ فيها في مشاكل الرمال العربية المتحركة.

أما على الصعيد الداخلي، فإن غرور أردوغان لم يفقده حليفه السابق الزعيم الإسلامي فتح الله جولن فحسب، وانما أقرب المقربين إليه، كالرئيس السابق "عبدالله جول"، الذي ينتمي إلى نفس الحزب، إلا أنه لا يتفق معه في قضية تبني "الإخوان المسلمين" وفتح الأبواب التركية لهم دون قيود ودعمهم اللامحدود من موارد الدولة، حيث لا يختلف رأي رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو كثيراً في هذا الشأن عن رأي الرئيس جول.

هذا ناهيك عن سلسلة الفضائح التي طالت الرئيس وأفراد عائلته، بغض النظر عن صحتها من عدمه وتماديه في محاكمة خصومه وطردهم من مؤسسات الدولة والمؤسسة العسكرية، وذلك رغم ثقلهم السياسي والاجتماعي وخبراتهم العملية.

هذه وغيرها من الأخطاء السياسية أفقدت أردوغان زخم التأييد الشعبي غير المسبوق لزعيم تركي منذ عهد المؤسس أتاتورك، والذي تحقق أساسا بفضل القفزة الاقتصادية الكبيرة التي تحققت في عهده، إلا أن ذلك لا يكفي، فمن أجل استمرار النمو الاقتصادي لا بد وأن يرافقه استقرار سياسي واجتماعي وإيجاد توازنات سياسية على المستويين المحلي والخارجي، وهذا ما فشل الرئيس أردوغان في تحقيقه، إذ غلّب أيدلوجيته وقناعاته العقائدية في دعم الإخوان المسلمين على مصالح تركيا وحلفائه المحليين والخارجيين، وهو ما أدخله في نفق مظلم يصعب الخروج منه.