محمد عارف

في «إيميل» من الأكاديمي العراقي مأمون أمين زكي، استعادَ ذكريات تمثيلنا في الطفولة مسرحية «خليفةٌ في الخيال» أمام ملك العراق فيصل الثاني. تدور أحداث المسرحية التي أعدّتها مُعلمتُنا الشاعرة العراقية فطينة النائب حول الخليفة هارون الرشيد، الذي كان يتجول في شوارع بغداد متنكراً للاطلاع على أحوال الناس، وذات يوم سمع بغدادياً اسمه أبو الحسن يتحدث عن الخير الذي سيصنعه للبلد لو كان هو الخليفة. وأمر هارون الرشيد باختطافه وتخديره، وإيهامه بأنه الخليفة. وصحا أبو الحسن فوجد نفسه في القصر محاطاً بالجواري، يدعونه «مولانا الخليفة». وظن أنه يحلم، فطلب من جارية أن تعضَّ أذنه ليصدّق ما يرى. «عضِّي أذني.. عضِّي أذني». واليوم كثير من الناس «يَعَضّون أذنهم» للتأكد من أن «أبوبكر البغدادي» حقيقة وليس خيالا!

المذكرة الداخلية لوزارة الخارجية الأميركية خيال يتيه كل من يحاول الخروج منه. فالمذكرة التي نشرت صورتها «نيويورك تايمز» تؤكد أن تنظيم «داعش» ينتصر في حرب الإعلام الاجتماعي، بينما يفشل التحالف ضده في صياغة رسالة إعلامية ناجحة. وتستقصي المذكرة حصيلة شهور من حملة الإعلام الاجتماعي لدول التحالف، والتي تدحرها، رغم ثرائها وتقدمها التكنولوجي رسائل عنيفة تطلقها «داعش». ويفشل حتى التواصل الاجتماعي بين دول التحالف نفسها، والتي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا ودولا أخرى. ومع أن مسؤولي الخارجية الأميركية يكررون أن «التراسل المضاد» أحد أهم أركان الاستراتيجية المضادة لتنظيم «داعش»، فإدارة أوباما تعترف بأن «التنظيم أكثر حَذقاً ومضاءً في نشر رسالته». ومؤتمر باريس الشهر الماضي، الذي حضره مسؤولون غربيون وعرب، بينهم العبادي، ناقش المذكرة، لكنه لم يخرج بخطة لتدمير إعلام «داعش» حسب «ريتشارد ستينغل» وكيل الخارجية الأميركية للعلاقات العامة.

وحتى شهادة أنطوني كوردسمان، أستاذ «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» في واشنطن، أمام لجنة «الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» في الكونجرس الأميركي مطلع هذا الشهر، تُقرؤ من عنوانها الخيالي؛ «إنشاء استراتيجية للعراق وسوريا وفي الحرب ضد داعش: الحاجة إلى التغيير والاستقامة والشفافية». يصعب تصديق أن يطلب أكاديمي أميركي مرموق الاستقامة والشفافية من المشرعين الأميركيين، المسؤولين في تقديره عن «حروب فاشلة في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن. حروب لا نربحها، وجهودنا الحالية فيها بالغة الضعف، وغير منسقة تماماً مع حلفائنا وشركائنا، بما يجعلها مؤثرة». ويستعين كوردسمان بدروس التاريخ القريب «منذ فيتنام وإلى الآن، حيث ترينا محصلة الأحداث أن كثيراً جداً من الجهود العسكرية للولايات المتحدة أصبحت تاريخاً لفشل الاستراتيجيات التي يتم الدفاع عنها بادعاءات مبالغة بالنجاح».

وإذا كانت «داعش»، حسب تصور كثيرين، صنعتها الاستراتيجية الأميركية الفاشلة، فليس هناك أتعس من صانعها الأميركي. فكلمة أوباما في ختام قمة «مجموعة السبعة» تُقرُّ بعدم وجود خطة متكاملة لمواجهة مقاتلي «داعش» الذين وصفهم بالحذاقة، والعدوانية، والانتهازية. وقال إن الولايات المتحدة حققت بعض التقدم لكنه «غير كاف لوقف تدفق المقاتلين الأجانب إلى العراق وسوريا، لأن آلاف المقاتلين الجدد يملأون صفوف مقاتلي داعش بأسرع مما تستطيع قوات التحالف إخراجهم من المعركة». وأضاف: «نخرج الكثيرين منهم من ميدان القتال، لكن إذا كانوا يعيدون ملأ صفوفهم فلن نحل المشكلة على المدى البعيد».

وعندما يدهش أوباما من مكر «أبوبكر البغدادي»، لا نعرف أيهما «خليفةٌ في الخيال»، هو أم «البغدادي»؟ ولولا جرائم «داعش» البشعة لأعجب كثيرون بمكر «البغدادي»! وقد عرفتُ وأنا في التاسعة من العمر الإعجاب الذي يثيره «خليفةٌ في الخيال». كان دوري في المسرحية «أبو الحسن». ولم أكن أفهم لماذا الملك فيصل يضج بالضحك والتصفيق مع الجمهور، عندما أتوسل بالجارية أن تعضَّني من أذني. كنتُ أزعقُ: «عضِّي أذني.. عضِّي أذني»، وقبلات هوائية ترسلها من خلف الكواليس معلمتي المحبوبة «فطينة النائب»!