عبد المنعم سعيد

ثلاث مهام لكي تقوم الأحوال في الشرق الأوسط على قدر من الاستقرار: استعادة الدولة، استعادة الدين، واستعادة النظام الإقليمي. هذه المهمة الأخيرة هي موضوعنا، وربما الأكثر تعقيدا، وما علينا إلا مراقبة المشهد الراهن في المنطقة حيث يستحيل عمليا أن نعرف الخطوط الفاصلة بين الأعداء والحلفاء، وما بين دولة وأخرى، ولا نعرف ما وراء الاتصالات واللقاءات التي تتم بين زعماء وقادة ووزراء خارجية، وكذلك لا نعرف ما بعدها، وهل تعني الكلمات الرقيقة عن التوافق في وجهات النظر أمورا حقيقية؟ قبل كتابة هذا المقال قامت «داعش» بإجراء أربعة تفجيرات في صنعاء ضد الحوثيين، وهؤلاء بدورهم وجدوا في مستشفيات السعودية ملاذا للعلاج، بينما طائرات التحالف لا تزال تقوم بمهامها فوق اليمن، وتقوم في نفس الوقت جماعات جيش الفتح المؤيد من التحالف بهجمات ناجحة على قوات ومناطق الدولة الإسلامية المزعومة (داعش). الحالة هذه فرضتها ظروف معارك تقاطعت فيها الخطوط، وتواترت فيها الأنباء حول تراجع هنا وتقدم هناك، حتى بدا الأمر في جبهة القتال على الحدود السورية العراقية كما لو أن كل طرف يعطي فرصة لبعض الوقت لكي يشعر بزهو الانتصار، وبعد ذلك يدفع ثمنه بهزائم مرة، وفي كل الأحوال فإن النزيف مستمر ودولا عربية تفقد وجودها، بينما الجامعة العربية تجتمع أحيانا، وتصدر بيانات في أحيان أخرى، ولكن الحالة الإقليمية تبقى على ما هي عليه.


مثل ذلك لا يمكنه الاستمرار، ومن يظنون أن عملية التفكيك للدول العربية قد توقفت عند الدول التي جرى تفكيكها واهمون. لقد انطلق «الفيروس» في المنطقة، وأمامه لا توجد مناعة دائمة، اللهم من وقت قد يعطي فرصة للمواجهة، ولكنه لا يجعل الانتصار حتميا. الانتصار لا يكون إلا إذا جرى التخطيط له، وقام على استراتيجية شاملة تحشد وتعبئ وتتجه نحو تحقيق أهداف بشجاعة. أولا لا بد من وضع خط على الرمال يعلن توقف الفوضى، وعملية تفكيك الدولة، والهجوم الفاشي الديني، عند حدود الدول التي لا تزال متماسكة. الملكيات العربية نجت من هذه اللعبة، ولكن ذلك في حد ذاته جعلها مستهدفة. مصر وتونس أفلتتا بأعجوبة ولكنهما يعانيان من صداع وآلام ما بعد العملية الجراحية وسط هجمات إرهابية وأوضاع اقتصادية صعبة. الجزائر نجت هي الأخرى بقدر ما، ربما لأنها مرت بتجربة العشرية السوداء القاسية. مجموع ذلك يشمل دول مجلس التعاون الخليجي، ومعهما الأردن والمغرب، ثم تونس ومصر والجزائر. وما عدا ذلك في سوريا والعراق وليبيا واليمن ولبنان كوارث حقيقية تشع بالإرهاب والفوضى والطائفية المذهبية والدينية والإقليمية والعرقية. نقطة البداية أن تكون هناك حماية كاملة للكتلة المستقرة، وشبه المستقرة، بحيث لا يتسلل لها «الفيروس»، وهذا يحتاج ليس فقط تواصلا واتصالا وتنسيقا، وإنما ما هو أكثر من ذلك؛ استراتيجية للمستقبل تسبق بصراحة الاستراتيجية التي تضعها «داعش» وحلفاؤها ليس فقط من منظمات إرهابية، وإنما أيضا من دول تؤيد عن قصد أو عن ضلال.


ثانيا: إن تكوين هذا التحالف العربي - الإقليمي يحتاج إلى استعداد وإعداد للتعامل مع أعداء تختلف طبيعتهم عن تلك التي تم بها تدريب وإعداد وتسليح قواتهم الأمنية. هناك فارق كبير ما بين الحرب ضد الإرهاب، وأشكال مختلفة من حروب العصابات، والحروب الكلاسيكية. القوة العربية العسكرية المزمع إنشاؤها قد تقوم بهذا التغيير إذا ما زودت بقدرات معلوماتية ومخابراتية أعلى مما عرفناه حتى الآن، ولديها قدرات للانتشار السريع والإبرار الجوي والمائي بحيث يكون لها القدرة على المناورة السريعة، وتحقيق المفاجأة ضد قوات احترفت دائما «المفاجأة» باستهدافها لأهداف مدنية ناعمة.


ثالثا: إن الاستعداد الأمني والعسكري لا يغني عن الاستعداد السياسي والاقتصادي ليس فقط برفع درجة «الرضا» المحلي، وإنما أيضا تقديم مشروع للمستقبل يستوعب الشباب وبقية المواطنين والفرق والنحل على قاعدة «المواطنة»، واللامركزية حسب الظروف الخاصة بكل بلد. وبصراحة فإن إعلانا سياسيا حازما من الدول العشر يؤكد على مجموعة من المبادئ الحاكمة للمستقبل يمكنها أن ترسي حدود النظام الإقليمي الذي نريد بناءه. ولأنه لا يوجد نظام إقليمي من دون دول، فإن التأكيد على السلامة الإقليمية، والوحدة الجغرافية، للدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، سوف يرسي مبدأ يردع الحركات الانفصالية عن اغتيال دول عربية في لحظات ضعفها من ناحية، ويرسل رسالة للرافضين للدولة العربية من الأصل مثل جماعة «داعش» أن الاستمرار في هدم الدول العربية سوف يعني حربا مستمرة تؤدي إلى تدميرها في النهاية.


مبدأ آخر لا يقل أهمية وهو أن النظام العربي الجديد سوف يضمن حماية الأقليات ليس بالتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وإنما بالرفض الأخلاقي والسياسي للعدوان على حق الأقليات في العيش الكريم على قاعدة من المساواة والعدل والحرية. إن الدول العربية تواجه الآن موقفا مشابها للموقف الذي واجهته الدول الأوروبية بعد حرب الثلاثين عاما والتي انتهت بما عرف بصلح وستفاليا عام 1648 والذي اعترف بسيادة الدولة على أراضيها من ناحية، ولكنه في نفس الوقت اعترف بحق الأقليات بالعيش مواطنين في الدولة ذات السيادة وليس امتدادا لدولة أخرى توجد فيها أغلبية من المذهب أو الدين أو العرق.


مبدأ ثالث يتعامل مع نتائج تكوين هذا التكتل العربي وما يظهره من حزم في التعامل مع الرافضين للدولة العربية، وما يتبعها من نظام إقليمي جديد، فالدول الإقليمية غير العربية سوف يتولد لديها شعور بالتهديد لا بد من مواجهته، أو هكذا سوف يكون اعتقادها. هذه الدول تحاول الآن اختراق النظام العربي المتهرئ لأنها تجد في ضعفه فرصة تاريخية، ولكنها سوف تجد في قوته وتصميمه تحديا أكبر. ما بين الفرصة والتحدي سوف نجد السلوك الإيراني والتركي والإسرائيلي. الأمر هنا يحتاج الكثير من التفكير والحكمة، ولا توجد «روشتة» جاهزة للتعامل معه، ولكن أسوأ أنواع العلاج هو ما نتعامل به الآن حيث لا توجد خطة أو استراتيجية، وإنما ردود فعل لظروف وأحداث، وأحيانا من خلال تصرفات فردية من قبل دول عربية مدفوعة بحب الظهور أحيانا والمغامرة أحيانا أخرى.


هنا لا بد من قاعة للمداولة، والتفكير، والتعلم من تجاربنا السابقة وتجارب الآخرين، وبصراحة إن المنحنى الذي عرفناه منذ مطلع هذا العقد لم يتكرر في تاريخنا المعاصر ربما منذ نكبة فلسطين. ساعتها ضاعت فلسطين، ولكن الدولة العربية بقيت، واستقلت، وتقدمت بدرجة أو بأخرى. ولكن الوضع الآن فيه ضياع خمس دول عربية، وما لم يُقَم نظام إقليمي جديد فإن العدوى لن يوجد منها عاصم.