&حازم الأمين

&

&

&

&

&


&

&

&طرحت «المسألة السورية» على «النصرة» تحديات لم يسبق أن واجهها تنظيم «القاعدة» في معظم مناطق اشتغاله. ثمة سعي لاستثمار «الإنجاز الميداني» في عملية سياسية. «النصرة» غير معدة لهذه المهمة، بينما «داعش» استعجل الأمر عبر إقامة «خلافته» ودولته. هذا أمر جديد كل الجدة على «القاعدة» التي لا تملك خبرات على هذا الصعيد.

ويرى الباحث حسن أبو هنية أن «النصرة» لا تستطيع أن تقيم حكامتها، طالما أنها تسعى إلى إرضاء الناس، فقد سارعت الجبهة إلى الموازنة بين الميول المحلية وبين التطلبات «الشرعية» في المناطق التي سيطرت عليها. والجبهة مؤلفة من مقاتلين لا يملكون مشروعاً لما بعد «التحرير». وهذا الأمر انعكس على ما يبدو ضعفاً في أدائها في إدارة المناطق وافتقارها لخبرات بيروقراطية.

و «النصرة» التي هي امتداد لـ «القاعدة» وللتاريخ «الجهادي» التقليدي بصيغه الأفغانية والبوسنية والشيشانية، هي أسيرة المضمون التضامني و «النكائي» (من نكاية) لهذا «الجهاد»، أي أن «الجهاد» يقتصر في عرفها وفي خبرتها على الأذى والانسحاب، ولا يشمل طموحات بالتمكين وبإقامة الدولة.

«داعش» على عكس «النصرة»، مسألة الدولة هي في صلب تطلعاته، وهو منذ سنوات «الجهاد» الأولى في العراق أطلق على نفسه اسم «الدولة الإسلامية في العراق»، وراح يراكم التجارب في إدارة المناطق التي سيطر عليها مستفيداً من الخبرات الكبيرة التي يملكها نشطاؤه الجدد من ضباط الجيش العراقي السابق. فـ «دارة التوحش» وضبط المناطق الجامحة والسيطرة على الفوضى، عبارات لطالما وردت في أدبيات الجماعة، ولطالما مورست بصفتها وسيلة الحكم وطريقاً لـ «تثبيت الخلافة». وبهذا المعنى وفر «داعش» نظاماً صارماً من العقوبات ومن الأمن ومن الخدمات، لم يسبق أن طرحته «السلفية الجهادية» على نفسها بصفته هدفاً لـ «الجهاد».

ويبدو أن الكثير من أمراء «النصرة» ممن انشقوا عن الفرع العراقي لـ «القاعدة» والذي تحول إلى تنظيم «داعش»، حاولوا أن يستثمروا تجاربهم «الداعشية» في المناطق التي تحولوا إلى أمرائها. فأمير «النصرة» في درعا، الأردني إياد الطوباسي (أبو جليبيب) حاول تأسيس ما أطلق عليه في درعا اسم «دار العدل» ومحاكم ومدارس لإدارة المناطق التي تمت السيطرة عليها، وهو أشرك في تجربته كتائب من الجيش الحر ومن أحرار الشام، وهو ما أدى وفق ناشط سلفي إلى فشل التجربة، ذاك أن السلطة تقتضي بأن يكون الحاكم واحداً، وتنفيذ الأحكام يقتضي حزماً لا توفره سلطة مشكلة من حزمة خيارات مختلفة.

تكشف المقارنة مأزقاً كبيراً تُكابده «النصرة» وتُدركه القيادة الدولية لتنظيم «القاعدة»، لا سيما أن رجحان كفة «داعش» في هذه المنافسة يتغذى أيضاً من قدرته على مخاطبة الضائقة المذهبية التي تشطر المنطقة كلها. فالعدو المذهبي الذي أعلن «داعش» أنه وجهة حربه الوحيدة قادر على تغذية الجماعة بالمقاتلين والمريدين، فيما يتولى إغراء الدولة و «الخلافة» والفعالية حسم تفوقه على «القاعدة» وعلى صيغتها السورية، أي «جبهة النصرة».

يقول قتيبة، وهو جهادي أردني من مدينة السلط أن تنظيم «الدولة» هو دولة وهو خلافة، بينما النصرة مشروع «جهادي» بلا أفق. ويرى الشاب أن إعلان «الخلافة» يُملي على المسلمين البيعة للخليفة المقتدر حتى لو لم تقنعهم شخصيته. ويشير قيادي من التيار السلفي الجهادي الأردني إلى أن مسارعة البغدادي في إعلان خلافته شكلت تحدياً كبيراً لخصومه في التيار، ذاك أنها وضعتهم أمام تحدي «اكتمال الجهاد»، فيما كشفت عن نقص كبير في العدة الإيديولوجية لـ «النصرة»، فبين «جهاد التمكين» الداعشي و «الجهاد النكائي» النصراوي، وجد الكثير من «الجهاديين» الجدد أنفسهم أمام إغراء الخلافة التي يوفرها «داعش».

والحال أن بقاء «النصرة» كفكرة مجردة لـ «الجهاد» فيما تولى «داعش» ابتذالها عبر مشروع الدولة والخلافة، كشف عن معضلة أخرى، تتمثل في أن «داعش» هو حقيقة الدعوة فيما «القاعدة» هي فكرتها غير الواقعية. علماً أن نموذج المقاتل القاعدي غالباً ما يكون مشحوناً بقيم يخاطبها اليوم «داعش» أكثر من تلك المتوفرة لدى «النصرة». فالعنف المطلق والقوة والفعالية، هي من عناصر الإعداد الأيديولوجي الذي تتولى السلفية الجهادية ضخها في وعي متلقنيها في المساجد.

وهذه الحسابات كلها كانت جزءاً من العناصر التي جرى نقاشها والتفكير بها خلال البحث في إمكان استقلال «النصرة» عن «القاعدة». فإعلان الانفصال يمثل مزيداً من الابتعاد عن التحديات التي فرضها «داعش»، أي مزيد من الابتعاد عن المضامين «السلفية الجهادية» للحرب وللدعوى. وهذا الابتعاد سيكون «داعش» أكثر المستفيدين منه. ويحسم أبو محمد المقدسي أن أيمن الظواهري غير متمسك ببيعة «النصرة» له إذا كان للتخفف من البيعة أثر إيجابي على وضع الجماعة، لكنه يشير إلى أن إعلان الانفصال لن يُفضي إلى وقف غارات التحالف الدولي على مواقع «النصرة» في سورية، فيما سيجد كثيرون من عناصر «النصرة» وخصوصاً غير السوريين منهم أنفسهم أمام خيارٍ لا بد منه، وهو الالتحاق بـ «داعش» أو مغادرة سورية.

الأكيد وفق مصادر السلفيين من مؤيدي «النصرة» أن الجماعة تعرضت لضغوط إقليمية كبيرة بهدف إعلان انسحابها من «القاعدة»، وذلك في سياق قبولها الاندراج ضمن «جيش الفتح» المرعي من قبل تركيا. ويبدو أن الضغوط أخذت أشكالاً مختلفة، لكن أبرزها كان عبر السعي لدمج الجماعة مع تنظيم «أحرار الشام». وكشف قيادي «جهادي» لـ «الحياة» اطلع على المفاوضات التي جرت بين الجماعتين للاندماج، عن أن «أحرار الشام» هم من بادر إلى التفاوض على الاندماج، لكنهم وضعوا شروطاً من الصعب على النصرة تلبيتها. وربط القيادي بين مبادرة «الأحرار» هذه وبين تولي قيادة جديدة لهذه الجماعة الإمرة بعد عملية الاغتيال الغامضة التي استهدفت كل قيادة الأحرار في إدلب قبل ما يقارب عام.

شروط «الأحرار» للاندماج تؤشر إلى نوع الصعوبات التي تواجهها الأطراف الاقليمية الراعية لـ «جيش الفتح» في عملية تسويق هذا «الجيش» بصفته نموذجاً مقبولاً على المستوى الدولي كواجهة للحرب على النظام في ســورية. فقد طلب «الأحرار» من «النصرة» أن تحدد حركتها بالحدود السورية وأن يجري ذلك ضمن مشــروع للبحث بمستقبل المقاتلين غير الســـوريين في صفوفها، وأن تقبل النصرة بالدعم المكشوف الذي تقدمه دول إقليمية مثل تركيا.

«النصرة» اعتبرت أن هذه الشروط غير ممكنة التحقق، ويجزم القيادي «السلفي الجهادي» الذي اطلع على مضمون النقاشات، واستشير بها، أن الانفصال عن «القاعدة» هو أهونها، بينما يبدو أن مسألة التخلي عن المقاتلين الأجانب هو أصعبها، إذ إنه يحرم «النصرة» من عنصر تفوقها الحاسم والمتمثل بخزان الانتحاريين الذي يشكله هؤلاء.

لكن الأهم في هذا المجال هو أن هذه المفاوضات لم تعن على الإطلاق أن قبول «النصرة» بشروط الأحرار كان سيعني رفعها عن لائحة الإرهاب الأميركية، ذاك أن أنقرة التي حركت عملية التفاوض هذه لم تنتزع من واشنطن موافقة على هذه الخطوة، لا بل أن استمرار استهداف طائرات التحالف بعض مواقع «النصرة» مثل جواباً واضحاً من واشنطن على هذه المساعي.

هذه المفاوضات جرت في شمال سورية وعلى مقربة من الحدود مع تركيا، في وقت يبدو أن الجنوب السوري في منأى عنها. فالرعاية التركية للوضع الميداني لهذه الجماعات لا يشمل الجنوب، والأخير يعيش على وقع حســـابات إقــــليمية أخرى، وهي حسابات أكثر تطابقاً مع اعتبارات واشنطن حيال الجماعات المقاتلة في ســـورية. فـ «النصرة» من الوجهة الأردنية ليــست على وشك التحول إلى جماعة مقبولة، وفصائل الجيش الحر في الجنوب أكثر قدرة منها على الإمساك بالأرض، ولا يبدو أن نموذج «جيش الفتح» قابل للتطبيق في الجنوب، ناهيك عن أن الحاجة إليه منتفية بفعل وجود «الجيش الحر». وهنا يرتسم محوران إقليميان قد يلتقيان عند الرغبة في إسقاط النظام في ســــورية، لكنهما متفاوتا الحـــماسة حياله، الأول تمثله تركيا وحلفاء خليجيون لها، وهو الأكثر حماسة ورغبة في إسقاط النظام، والثاني تمثله عمان ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية، وهذا المحور ما زال متمسكاً بضرورة البحث عن بديل للنظام قبل إطاحته. وتملي هذه الوجهة معطيات ميدانية حذرة في جنوب سورية.

وفي الجنوب أيضاً تبدو مخاوف «النصرة» أكبر، وتشعر هناك أنها محاصرة أولاً بإقفال الحدود بوجه «مجاهديها» غير السوريين، وثانياً بفصائل الجيش الحر الأكثر استقبالاً للسلاح وللدعم منها، وهم امتداد لجماعات قاتلتهم «النصرة في الشمال وطردتهم من ادلب وريفها. وهي إذا أرسلت أميرها الشرعي أبو ماريا القحطاني (ميسر الجبوري) إلى الجنوب بعد أن طرده «داعش» من دير الزور، ضاعفت بفعلتها هذه من مستوى التناقضات بين أمرائها المقيمين حول درعا. وتُطل هنا مجدداً مسألة أن «النصرة» ليست تنظيماً واحداً، وأن أبو محمد الجولاني هو على رأس تنظيم «كونفيدرالي» ضعيف التماسك.

ويبدو أن ثلاثة اتجاهات تتنازع الجبهة وتُمثل وجهات غير متقاربة المصالح والأهداف. ويُمثل الاتجاه الأول الخط القاعدي التقليدي وأبرز وجوهه سامي العريدي وهو أردني الجنسية وأردني آخر هو إياد الطوباسي (أبو جلبيب)، ومعظم مقاتلي هذا الاتجاه هم من غير السوريين. ويقيم العريدي في ريف دمشق فيما يتولى الثاني إمارة درعا. وهما ممن قدما من العراق وانشقا عن تنظيم «الدولة». ويبدو أن تأثير هذا الاتجاه طاغياً على الجماعة، وهو ما منع إعلان الانفصال عن «القاعدة». ثم إن تأثير الأمراء الأردنيين رتب تأثيراً موازياً لشيوخ «السلفية الجهادية» الأردنية من أمثال أبو محمد المقدسي، وأبو قتادة. ويقدر عدد المقاتلين الأردنيين في صفوف «النصرة» بنحو 600 مقاتل فيما يبلغ عددهم في صفوف «داعش» نحو 1500 مقاتل.

الاتجاه الثاني يُمثله أبو ماريا القحطاني، وهو عراقي اسمه ميسر الجبوري جاء إلى سورية مع تنظيم الدولة وانشق عنها، واليوم يعتبر القحطاني من حمائم «النصرة» ومن أشد أعداء «داعش». وهو شديد الحماس لإعلان «النصرة» انفصالها عن «القاعدة». علماً أن القحطاني كان المسؤول الشرعي للنصرة وأمير منطقة دير الزور إلى أن هاجم «داعش» جماعته وحاول قتله، ففر إلى الجنوب مع نحو 250 مقاتلاً، وهو اليوم يقيم في منطقة درعا، ولم يعد مسؤولاً شرعياً للجماعة.

ويروي ضابط في الجيش الحر التقى القحطاني قبل أسابيع في درعا أن الأخير مجاهر في اختلافه مع قيادة «النصرة»، ويرى ضرورة اندماجها بفصائل «الجيش الحر» في الجنوب على نحو ما فعلت في إدلب عبر انخراطها في «جيش الفتح». ويشير إلى أن القحطاني وخلافاً لأمراء النصرة المنكفئين، شديد الحضور الاجتماعي والعام وكثير الحذر من «داعش» الذي يرى أنه عدوه الأول. لكن ضابط «الجيش الحر» حذر في تفسير أسباب خروج القحطاني عن خطاب «النصرة» ولا يستبعد أن يكون ذلك مجرد توزيع للأدوار.

الاتجاه الثالث يمثله أبو محمد الجولاني، وهو اتجاه يحاول الموازنة بين طرفي الاستقطاب هذين، وتشكل البراغماتية داخل التنظيم سمته الرئيسة فيما يبدو العنصر السوري أكثر طغياناً عليه. ولعل الشخصية الأكثر شرعية في هذا الاتجاه، الداعية السعودي عبدالله المحيسني. لكن يبدو أن هذا الاتجاه أقل تأثيراً في القرارات المتعلقة بمستقبل الجماعة وفي شروط وجودها في سورية. ثم إن متقصي شخصية الجولاني في البيئة «السلفية الجهادية» يشعر أن الرجل واجهة ليس أكثر، وأن النفوذ الفعلي في النصرة هو لأمراء غير سوريين في غالبيتهم. وحصيلة هذه الخريطة لأي مقترب منها تتمثل في أن مغادرة «النصرة» لـ «القاعدة» شرط لسورنتها، لكن ما أن تكف النصرة عن كونها «قاعدة» ستكف عن التأثير.
&