محمد الرميحيد

مع استبعاد قيام حرب عالمية ثالثة بين القوى الكبرى المتصارعة في عالم اليوم، بسبب توازن قوى الرعب فيما بينها، إلا أنه في نفس الوقت يوجد بينها تناقض مصالح وصل إلى حد التوتر العالي. المخرج لتنفيس التوتر هو أن تساعد، إيجابًا أو سلبًا، «حروبًا» موضعية في مناطق العالم القابلة للاشتعال، هذه الحروب يمكن تصنيفها بشكل فضفاض أنها حروب بالوكالة، وهي حروب من أهم صفاتها أن ليس لها قواعد اشتباك معروفة، ولا خروج منها إلا بمظلة دولية، لم تتوفر بعد، وربما أكبر منطقة لديها قابلية أن تبقى ساحة حرب وصراع بالوكالة دون قواعد اشتباك، هي منطقة الشرق الأوسط.


بسبب ذلك فنحن الآن في هذه المنطقة في «حجرة مظلمة» لا نعرف من يقوم بضرب الآخر ولا من يتلقى الضرب، وما العلة في الدفاع عن متناقضين في نفس الوقت! ما نعلمه أن هناك ضجيجًا صاخبًا في هذه الحجرة، وفوضى عارمة، وأنين جرحى ونواح ثاكلات، وعمى إعلاميًا منقطعًا نظيره، منطقتنا من أكثر المناطق إنتاجًا للأرامل في هذا العصر، والأكثر عرضة للإعلام المضاد.


في هذه الحجرة المظلمة تسمع صدى لتيارين غالبين؛ «الإسلام الجهادي» و«الإسلام الطائفي»، كلاهما عنف مذهبي قبيح، هذه المكربة تشير إلى أن الأمن والاستقرار لن يعود إلى هذه المنطقة لعقود قد تطول، وأن القوى الخارجية، ما دامت في مناكفة، لا ترغب أو لا تقدر على فرض النظام، من خلال هذه الفوضى.


خذ «داعش» على سبيل المثال، البعض يصرخ أنها خليجية المولد والثقافة، والبعض يرى دون تردد أنها إيرانية المصدر، وآخرون يؤكدون أنها من بنات أفكار وأعمال المخابرات الأميركية، أو حتى الإسرائيلية، والبعض يرى أنها نتيجة منطقية للقمع الذي تعرض له أحد المكونات المهمة في المنطقة، في نفس الوقت الذي ينخرط فيه البعض لحرب «داعش»، يحاربها أولاً من منظور طائفي، وثانيًا يعضد من مثلها في المقاصد كالحوثيين.
انظر إلى الساحة السورية، رغم كل هذا العنف والتدمير، فإن البعض يصر على إبقاء النظام القائم الذي يذبح الناس دون تمييز؛ لأن البديل من القوى المتشددة سوف تقتل الناس! وكأن الخوف من الموت يلجئ إلى الانتحار! في مصر، رغم أن هناك أغلبية مصرية تنشد الاستقرار، إلا أن البعض يصر على هز ذلك الاستقرار ويحمل السلاح أو يقتل الناس في الشوارع، من أجل عودة نظام ثبت بالتجربة أن لا أفق له. حدث ولا حرج في ليبيا التي من الصعب أن تعرف أين بالضبط تكمن المشكلة؟ ومن مع من في ليبيا؟ ومن ضد من؟ في العراق أصبحت الأخبار عن قتلى وتفجيرات يومية هي العنوان الأكثر ثباتًا في نشرات الأخبار الدولية، كما أن نظامها يضع رِجْلاً في المعسكر العربي وأخرى في المعسكر الإيراني!
في هذه الحجرة المظلمة وعلى المستوى الإعلامي، تستطيع أن تتابع تسونامي من التضليل، فأنت تقرأ للمحللين الكثر ما هو أقرب إلى أضغاث أحلام، لما يتناولونه من قضايا، فقط من خلال زيارة ولي ولي العهد في المملكة العربية السعودية إلى موسكو، تستطيع أن ترى خيال التأليف الخصب لدى البعض، في الأسباب التي دفعت الرياض إلى موسكو، والشروط والشروط المضادة التي تمت بين الطرفين، معظمها قائم على التخمين والرغبات الذاتية، وكان أصحاب «الإفك» التحليلي قابعين قريبًا من سير المحادثات! ثم ما تفجر من تسريبات حول بعض الوثائق من الخارجية السعودية يؤشر، دون كثير من الاجتهاد، إلى الحرب والضرب في هذه الحجرة المظلمة، رغم أن المتبصر في بعضها يرى دون جهد كثير كم التزييف الذي حل بها، فبعض لغتها لا يشبه لغة الدبلوماسية السعودية، وبعضها أعمال يومية روتينية تحدث بين الدول بشكل طبيعي! أُريد النفخ فيها للتوظيف السياسي في هذا الوقت بالذات.


هذه الحجرة تستطيع أن تسمع فيها أزيز حذاء لصحافية يمنية في جنيف تجاه رأس متحدث حوثي، وتستطيع أن تسمع فيها عراكًا لبنانيًا - لبنانيًا للإطاحة بما بقى من «الدولة» اللبنانية، إن بقي منها شيء حتى الآن! المعارك الإعلامية تدور بدوران المعارك الحربية على الجبهات، وهي ربما الأخطر، لأنها تحاول أن تغرر بالقارئ والمشاهد من أجل تجنيده للفكرة التي تدعو إليها، أو صرفه عن فكرة متشبث بها، وبالتالي حثه على القيام بفعل ما، قد يصل إلى حمل السلاح. القوى المحلية في الغرفة المظلمة عاجزة عن تنظيم هذه الفوضى، لأنها ما زالت تضع آمالها على تدخل من قوى خارجية، واضح أن ليس لديها الرغبة حتى الآن. فتلك القوى تسعى جاهدة للحصول على أفضل النتائج لسياساتها من خلال زيادة إظلام الحجرة، هي على استعداد أن تكون غامضة، وتتحدث بأكثر من لسان، وتتحالف مع الشيء ونقيضه في نفس الوقت، بل وفي بعض الأوقات تزيد تلك الحجرة إظلامًا بسبب سياسة النكايات لا غير، كما يتسرب بعض سكان تلك الغرفة إلى الخارج من أجل الموت في قوارب عائمة في مياه البحر المتوسط، بدلاً من الموت في حجرة الفوضى.


نحن في هذه المنطقة في مرحلة بين مرحلتين، ولكنها مرحلة قد تؤدي إلى استنزاف ضخم للموارد، قبل أن تؤدي إلى تحقيق مصالح محلية أو استقرار نسبي. الخسارة الكبيرة هي إشاعة الاضطراب في كل المنطقة، لم يبقَ مكان في الشرق الأوسط غير مضطرب أو معرض للاضطراب، في الخليج مثل محلي نابع من معاناة أهلنا مع أهوال البحر، يضرب المثل عندما يحتار الإنسان فيما يرى، فيقال إن «البحر غزر علينا»، أي أن الأعماق التي نبحر فيها ليست مألوفة، كما اختلط ما هو لنا بادعاء ملكية غيرنا له، إنها أرض جديدة كليًا لم نعرفها! حتى التراث الديني تم التلاعب به من قبل قوى وجماعات أنتجت فكرًا أعمى وعلى غير هدى أو بصيرة، يحمل بندقية لا توجهها أهداف بعينها، غير إشاعة الفوضى من أجل الفوضى.


حتى العشرية الأولى من هذا القرن كانت خطوط الاشتباك شبه معروفة، وكانت التوقعات ممكنة، بعد «ربيع العرب» اختلطت الأمور إلى حد تداخل الألوان، وتشابك الدوائر، ولم يعد أحد قادرًا على تحديد المسار أو حتى التأثير فيه أو حسمه.


ما سبق هو توصيف للمشكلة، ولكن السؤال الأكثر أهمية: تُرى من سوف يشعل النور في هذه الحجرة لبيان الأعداء من الأصدقاء؟ قياسًا للغائب على الشاهد، ما سوف يضيء الغرفة هو مواجهة المشكلات كما هي لا الاختفاء بعيدًا عنها، ولعل الإضاءة تأتي على درجتين؛ الأولى تحالف حقيقي وفعال للمتضررين من الظلام، أما الدرجة الثانية فهي مواجهة «الفكر الظلامي» الذي يختبئ خلف مقولات الدين والتمترس الطائفي، والتخلص بشجاعة من المشاهد المفزعة في الخلط المرضي بين «الداعية» المؤهل تأهيلاً علميًا صحيحًا، وبين الغوغائي الجاهل الذي يشتري بآيات الله ثمنًا قليلاً، وهم منتشرون اليوم من نيجيريا (بوكو حرام) إلى ليبيا مرورًا بالكثير من المناطق العربية، يعضدهم إعلام يعمى عن تأثيره السلبي المدمر. هي معركة إنقاذ توجب أن تخاض لإضاءة النور في الحجرة المظلمة.

آخر الكلام:
تبرعت الـ«بي بي سي» العربية بتخصيص برنامج كامل حول تسريبات «ويكيليكس» من خلال «الجيش اليمني الإلكتروني»! وجاءت «بشاهد عدل!» هو الأستاذ عبد الباري عطوان لتحليل الموقف، وهكذا هو «الإعلام المهني»!