عادل درويش

الأسبوع الماضي تساءلنا عن جدية رئيس الوزراء ديفيد كاميرون في مكافحة الإرهاب و«الآيديولوجيا المسممة» التي دفعت بمئات من الجنسين من مسلمي بريطانيا للالتحاق بصفوف دولة الإرهاب الداعشية.


عاود المستر كاميرون الهجوم على «داعش» والدواعش أول من أمس (الجمعة) عقب أربع هجمات إرهابية راح العشرات ضحاياها، ومن الشك أن تكون الهجمات الأربع مصادفة.


الهجوم على مصنع في جنوب فرنسا وقطع رأس مديره ورفع راية «داعش» فوقه، ثم الهجمة الإرهابية الانتحارية على مسجد في الكويت (بعض الضحايا صبية، بعضهم دون العاشرة ضمن 27 قتيلا ومائتي جريح). في اليوم نفسه شن الإرهابيون هجوما على منتجع صيفي في جنوب تونس أسفر عن مقتل 38 حتى كتابة هذه السطور. وهجوم إرهابي لمجموعة الشباب على مركز لقوات السلام من الاتحاد الأفريقي في جنوب الصومال.
ولأن بين الضحايا رعايا بريطانيين، كرر المستر كاميرون عبارات الإدانة ونداءات للمسلمين بمكافحة الفكر المسموم.


ونكرر السؤال: مؤسسات الدولة البريطانية ووزارة الخارجية، لماذا لا تزال تمارس رقصة فالس الحب والغرام طويل المدى مع جماعة الإخوان المسلمين التي دعمتها ومولتها المخابرات البريطانية منذ تأسيسها في نهاية عشرينات القرن الماضي، رغم علم المؤسسات البريطانية بأن هذه الجماعة هي منبع الفكر المتطرف والتكفيري والرحم الآيديولوجي والتنظيمي الذي ولدت منه «داعش» و«القاعدة» و«الشباب» و«بوكو حرام» وكل الجماعات الإرهابية التي اختطفت راية الإسلام؟
ورغم تاريخ المخابرات البريطانية ودورها الأساسي في دعم وتمويل الإخوان في عشرينات القرن الماضي، وتمويل التنظيم، ما كان قدر للجماعة الاستمرار والنمو، فلنفترض حسن النية لدى مؤسسات الدولة البريطانية ووزارة خارجيتها في رقصة الحب مع الجماعة، ولنعتبر الأمر خطأ وسوء تقدير.. سوء تقدير نابع من الاعتقاد الخاطئ بتقسيم الإسلام السياسي إلى جماعات متشددة إرهابية كـ«القاعدة» و«داعش» و«الشباب» و«بوكو حرام» وأمثالها، وإسلام سياسي «غير عنيف» كالإخوان وحماس (وذلك في تصنيف القوى والمؤسسات الغربية كبريطانيا والاتحاد الأوروبي وأميركا ومعاهد الدراسات الاستراتيجية وليس تصنيفنا نحن).


لكن هناك خطأ تكوينيا structural error في أسلوب التفكير هذا، إذ إن ما يسمى بالإسلام السياسي المعتدل هو مجرد حاضنة لجنين التيار التكفيري الإرهابي، وأحيانا التربة التي ينمو فيها النبات الشيطاني، وبالنسبة لجماعات كالإخوان (شعارها «الجهاد غايتنا») فإن «الاعتدال» أو استخدام وسائل في ظاهرها غير دموية، هي حاضنة وأيضا مرحلة قبل انفجار التيار التكفيري الإرهابي. عدد من المحللين المصريين والعرب، وفي بلدان إسلامية أدركوا هذا الخطأ قبل سنوات (والشعب المصري أدركه بغريزته عندما خرج بالملايين للتخلص من الإخوان) ورفض تصنيف الغرب مقدرا أن الفكر الإسلاموي السياسي المتشدد كله خراب وبلاء على مسلمي العالم كلهم.
في الأسبوع الماضي اتفقنا مع اتجاه رئيس الوزراء البريطاني في مناشدته مسلمي بريطانيا ألا يسكتوا كموافقة ضمنية على ما يمثله فكر «داعش».


فالهجمات الإرهابية سواء كانت باتفاق مسبق في توقيت الجمعة (وهو الاحتمال الأغلب) أو خلايا نائمة استيقظت على نداء مشفر في خطاب متحدث «داعش» عقب تراجعها أمام قوات البيشمركة الكردية، وبالتالي فإن الهجمات هي لكسب المعركة في الصحافة العالمية.


كاميرون بدأ يدرك ما أدركه مفكرون عرب ومسلمون قبل سنوات. ورغم ثراء اللغة الإنجليزية وقدرتها على ابتكار كلمات جديدة، فإنه لا توجد كلمة واحدة تفي بمعنى التعبير العربي «الحاضنة البشرية» أي المجتمع الأكبر الذي يبدو معتدلا وهو أيضا غير عنيف أو مسلح ولا يمارس الإرهاب، لكن بغير هذه الحاضنة البشرية لن ينمو الإرهاب ويترعرع ويكون لديه القدرة الفاعلة على ممارسة الإرهاب.


هذه الحاضنة البشرية هي ثقافة للمجتمع تتساهل فيما تعتقد أنه «إيمان» وأسلوب حياة إسلامي لكن دون أن يدرك المجتمع أن التفاصيل الصغيرة التي تبدو بريئة كتعبير عن إيمان حقيقي هي أيضا ثقب مفتاح الباب في الحصن السيكولوجي للأفراد والذي تدخل «داعش» وأمثالها فيروس العنف منه لتستولي على كل شخصية الإنسان ذهنا وقلبا وروحا ليتحول إلى قنبلة بشرية كالإرهابي الذي فجر نفسه في المسجد الكويتي أو الممسوسين الذين ارتكبوا المذبحة البشرية على الشاطئ التونسي. رجل الدين الباكستاني محمد طاهر القوادري تحدث أيضا عن الحاضنة البشرية وأعاد صياغة منهج المدارس الإسلامية ونشره قبل عشرة أيام بالعربية والإنجليزية والأوردو مشددا على آيات وفتاوى تحرم الإرهاب وتساويه بالكفر.


للأسف فإن الزملاء الصحافيين عربا كانوا أم بريطانيين، أميركيين كانوا أم أوروبيين، لا يزالون يقعون في الخطأ التكويني في وضع استثناءات وتصنيفات بعضها يقبل العنف ويبرره، وبالتالي يصبحون، دون قصد منهم، حاضنة بشرية للثقافة التي خرجت منها «داعش» والجماعات المتطرفة.


في مقابلة في تلفزيون عربي أردت توضيح فكرة عنصر الجذب الرومانسي في المشاركة فيما يعتبره الشباب قضية مثالية. والشباب البريطاني المسلم مثلا الذي تسربت «داعش» إلى تكوينه النفسي يعتبر إرهابها في العراق وسوريا واجبا إسلاميا. وذكرت كيف تدفق الشباب البريطاني في ثلاثينات القرن الماضي على إسبانيا ليتطوع مع قوات الجمهورية المعادية للفاشية، وكيف تدفق متطوعون من مختلف الجنسيات مع المنظمات الفلسطينية في السبعينات. وهنا انتفض المذيع الفلسطيني وكأن صاعقة مسته ليقاطعني (ويقطع تسلسل شرح الفكرة للمتفرجين) صارخا «فلسطين حالة احتلال والمقاومة مشروعة». الملاحظة هنا أن الأفراد الذين يتكون منهم المجتمع، لكل منهم taboo أو قضية أو معتقد لا يريد إخضاعه للتحليل المنطقي مما يجعله حتى عاجزا عن مجرد الاستماع لبقية جملة كان يمكن أن تكمل تحليل المشكلة المطروحة أمامه. وهي حالة تعرف بالـ tunnel vision أو النظر من خلال نفق ضيق يجعل الناظر عاجزا عن رؤية المشهد كليا.


وإذا أخذنا حالة المذيع والقضية الفلسطينية مثالا، وتصورنا ظهور تنظيم متطرف جديد بديل عن «داعش» ورفع شعار تأسيس «دولة الخلافة» في فلسطين المحررة، فإن من أكبر الاحتمالات إذن أن يصبح المذيع الفلسطيني مؤيدا «حاضنا» للتنظيم المتطرف الجديد بأمل «تحرير» فلسطين، خصوصا أنه شب منذ كان رضيعا على فكرة تبرير أي تحرك مسلح أو حركة عنف طالما أن الهدف المعلن للجماعة الجديدة هو الهدف الذي يتسق مع الهدف أو الأهداف التي يقدسها في سيكولوجيته.


وقس على ذلك عشرات القضايا التي يجد المسلمون فيها «استثناءات» تجعلهم يبررون عنف جماعات وتيارات بزعم الوصول إلى الهدف الذي يقدسه هؤلاء التبريريون.