&عبدالله القفاري


يظل حديث المؤامرة، التميز العربي الكبير. وعندما يطل هذا الحديث برأسه فلن تجد سوى مستسلمين ومسلمين حد اليقين بأنهم ضحايا مؤامرة كبرى تستهدفهم لتقوض حياتهم وتعبث بمصيرهم وترديهم في شقاء طويل!

ومن يحاول ان ينفي المؤامرة، فإنما يصادم التاريخ، فالتاريخ البشري قائم على الصراع، وتاريخ العرب الحديث، ومنذ الحرب الكونية الاولى، ومنذ تقسيم تركة الرجل المريض - تركيا العثمانية - (سايكس بيكو).. ثم انشاء الكيان الاسرائيلي في قلب فلسطين.. ورعاية نظم الانقلابات العسكرية.. وليس انتهاء بغزو العراق وتقسيمه وتفتت سورية واشعال المنطقة بوقود جاهز لا يحتاج اكثر من استدعاء التاريخ المأزوم بين فرقها وطوائفها.

كل هذا مفهوم ومعروف ولا يحتاج اليوم خبرة لاستدعائه لتكريس حديث المؤامرة.. إلا ان هناك مشكلة كبرى تطل برأسها عند كل حديث من هذا النوع. ألا وهي فكرة الصراع التي كانت وستظل في عالم تتغير فيه اشكال الصراع، إلا انه مازال يعيش على عوائده ويحمي به مصالحه ويكرس من خلاله نفوذه.

كيف يمكن حل هذه المعضلة الذهنية العربية؟ التي تتذرع بكل عناوين المؤامرة كي لا تواجه أكبر مأزق وجودي في تاريخها الحديث. توظيف المؤامرة طالما كان محاولة لتحميل مسؤولية الإخفاق على أكتاف الأعداء من كل نحلة وملة.. وليس ضمن دائرة تحدد ملامح المأزق الذي يبدأ بالذات العربية ولا ينتهي بالمؤامرات الخارجية.

الصراع عبر التاريخ لم يختص بالعرب او المسلمين وحدهم، إلا انهم في هذه المرحلة التاريخية يشكلون مادة الامتياز في اخبار الصراع بل والتردي.. بل وما هو اخطر وهو الفناء الحضاري والانساني والتمزق العنيف والدموي.. وما يجري اليوم لا يؤكد على شيء أكثر من هذا.

الصراع عبر التاريخ، طال اوروبا والامريكتين واسيا ومناطق اخرى من العالم عبر حقب التاريخ المتطاولة. إلا اننا نعيش في الالفية الثالثة، التي لا تتسع لصراعات من نوع ما يحدث الان.. إلا وتحمل بذور الفناء في طياتها.

&

&

&

توظيف المؤامرة طالما كان محاولة لتحميل مسؤولية الإخفاق على أكتاف الأعداء من كل نحلة وملة.. وليس ضمن دائرة تحدد ملامح المأزق الذي يبدأ بالذات العربية ولا ينتهي بالمؤامرات الخارجية..

&

&

&

&

&

&


في مطلع القرن الماضي، وعندما بدأ مشروع تقسيم المنطقة العربية، ربما كان يُعذر العرب الخارجون من حقب طويلة من الجهل والفاقدون للقدرة على بناء ذات قادرة على رسم ملامح مستقبلها بطريقتها وعبر ادواتها.. إلا انه بعد مضي قرن كامل وبعد مضي ومضات من مشروع نهضوي في ثلاثينيات واربعينيات القرن الماضي.. الذي وئد تحت وطأة الانقلابات الفاشية والعسكرية وتحت شعارات التحرير التي لم تكرس سوى ملامح الدولة الفاشلة.

من السهل ادانة الاخر.. من السهل التبرؤ من تبعات هذا الكابوس الذي يغشى المنطقة ويطلق اعنف موجات من القتل والاستباحة والتدمير والانتهاك.. باعتبار ان المؤامرة كبرى والقوى الضالعة فيها متمكنة وهي تريد اغراق هذه المنطقة في كابوس طويل من الاقتتال والتدمير والتفتيت.. الا انه من الصعب ان نناقش لماذا نحن وحدنا فقط ضحايا مؤامرة من هذا النوع الكارثي؟ ولماذا يسيطر علينا حديث المؤامرة أكبر من كثير من محاولة تفتيش في الذات الضحية؟ واذا كانت المبررات كافية لنرى انفسنا فعلا الخطر الاكبر على المشروع الغربي الامريكي الصهيوني في المنطقة!!.. فلماذا بعد تلك الحقب الطويلة من بناء الدولة لم نقو على مواجهة هذا المخطط القاتل ولماذا استسلمنا لنرى انفسنا بين قاتل وقتيل؟

يجب ادانة الذات أولا، انها كانت اعجز من ان تفهم تلك المعادلة الصعبة، التي تقوى فيها على البقاء قادرة على حماية نفسها ومجتمعها.. أما لماذا هي غير قادرة على حماية ذاتها؟ فلأن النظم التي حكمتها لم تكن تؤمن اصلا بأن ثمة شعوبا لها حق لا يجب تجاوزه ولها تطلعات لا يجب القفز فوقها، بل كان عماد النظم الاستبداد والاستبداد وحده.. ولم تبرع تلك النظم الفاشلة سوى بتكريس مؤسسات القمع والمصادرة والفقر وقتل حرية الانسان وقيمته ومصدر قدرته على بناء ذاته ومجتمعه.

نحن ضحايا مؤامرة تبدأ من الذات، التي لم تحسن معالجة مشاكلها، ولم تبن نفسها، ولم تنهض بمجتمعها.. إنما ظلت غارقة في مشروع دولة ليست لمواطنيها قدر ما هي لسلطة مستبدة لا تؤمن بمشروع سوى مشروع البقاء والتمكين ولو كانت الضحية الشعوب المغلوبة على امرها.. وكل هذا تحت عناوين افشال المؤامرة. لقد تم تجريف المنطقة العربية من قواها الحية، وبذرة صناعة الحياة. وعندما ضعفت قبضة تلك النظم اكتشفنا حجم الفراغ الهائل الذي شغله عقل اصبح يحتمي بالطائفة والعشيرة بعد ان فقد الوطن.

إن ادانة الدولة الفاشلة.. مقدمة ضرورية لفهم مسار التخبط والتردي في المنطقة العربية. كما ان ادانة دولة الاستبداد والقمع والمصادرة التي لا يحلق بها سوى الافساد والفساد.. هي البداية الضرورة لفهم هذا المآل البالغ التردي في حاضر هذه المنطقة وفي مستقبلها المنظور.

الدول القوية بمؤسساتها وشعبها واقتصادها وتعليمها ومنظومتها العدلية والحقوقية.. هي الاقدر على مواجهة تداعيات المؤامرات من أي جهة جاءت. انها الدول التي تستطيع ان تجعل مشروع الدولة/ المواطنة قيمة كبرى للدفاع عن الكيانات.. إنها الدولة التي تعمل على بناء مجتمعات متماسكة وتؤسس لمواطنة محترمة، ولا تعبث بالمكونات الاثنية لصالح استبداد النظام وهيمنته على الجميع. انها الدولة الوحيدة التي تقوى على مواجهة مشروعات التفتيت والتقسيم وتحول دون ان تصبح شعوبها وتكويناتها لقمة سائغة لمؤامرات الخارج. الحصون القوية من الداخل تستعصي على المؤامرات.

هؤلاء الذين يبرعون في الحديث عن المؤامرة الكونية التي تنال منهم، دون ان يكشفوا حجم الخلل في الذات يسهمون بشكل او بآخر في نجاح تلك المؤامرات، انهم لا يتورعون وهم يحملون على الدول الكبرى الضالعة في مشهد الصراع، ان ينحازوا للجماعة الصغرى أيا كان لونها او طبيعتها السياسية او العرقية او الطائفية، بل ويزايدون في احراق الجسور بين ابناء الوطن الواحد.

ولا يتورعون عن الدفاع عن مصالحهم الصغيرة حتى لو قضمت من مصالح الكيان الدولة والمجتمع.. ولا يرون بأسا في الاصطفاف والدعاية المجانية للظلم تحت شعارات صارت سوقا رائجة وعنوانا كبيرا لانتهاك قيمة وحياة الانسان!!

يجب ان نراجع تجاربنا في هذه المنطقة المنكوبة. ماذا صنعت الدولة الوطنية منذ الاستقلال؟ وإذا كانت هناك بوادر مشجعة لنظم قامت بعد الاستقلال مباشرة، الا انها وئدت تحت ضربات الانقلابات.. التي جاءت بشعارات الحرية والوحدة والمساواة وتحرير فلسطين.. ولم تجن منها المنطقة سوى الفشل الذريع والتردي الاكبر.

ادانة نظم الاستبداد والقمع التي تحولت الى نظم أشبه بالعصابات التي ترتبط بالمصالح والنفوذ وتعمم الفساد الذي طال بنية الدولة وشروطها.. هي الكارثة الاكبر، التي صنعت هذا المشهد المغرق في السوداوية.

ماذا لو كان عراق صدام حسين، يتمتع بمستوى ما من دولة المؤسسات التي تجعل الشعب شريكا في القرار تحت حس المسؤولية المشتركة.. هل كان يمكن في ليلة ظلماء ان يقرر المهيب غزو الكويت ليدخل العراق والمنطقة بعدها في كابوس طويل...

هل حمت سجون نظام الاسد ومعتقلاته وبشاعة وسائله الوطن السوري، أم انها كانت المعول الاكبر في تفتيت الدولة والوطن، مما صنع اكبر كارثة انسانية في القرن الحادي والعشرين.

ما هي نتائج انقلاب عسكر يوليو 1952 في مصر، ألم تتردى مصر تدريجيا في وهدة التخلف والتراجع.. بعد ان كانت القاهرة باريس الشرق، ومصنع القامات. ماذا جنت شعوب المنطقة سوى التخلف وزيادة معدلات الفقر والتدهور على كل اصعدة الحياة.

إدانة الذات، وليس جلد الذات، الوسيلة الوحيدة لدراسة مقومات ذلك الفشل والقطيعة معها وبحث مصادرها الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية، ومعالجتها.. وإلا سنظل في دائرة المؤامرة التي لن ننجو منها طالما توافرت بيئة تستجيب لها.

ان ما نراه اليوم من كوارث اصابت الانسان العربي في منطقة ممتدة من ليبيا حتى شط العرب، لم يكن ليتحقق بهذا القدر لولا هذا النجاح الكبير في الفشل.
&