جاسم بودي

قدمت الكويت في أسبوع الألم بين جمعتين أعظم ما يمكن أن يقدمه مجتمع أراد توجيه رسالة إلى الإرهاب والعالم بأن قيم هذا البلد ليست قيماً طارئة وأن وحدة هذا الوطن ليست شعاراً وأن تضامن الكويتيين في المحن ليس أغنية وطنية.

بعد التفجير الإرهابي الذي استهدف أبرياء في بيت الله تجلّى التفاعل والتعاطف والتلاحم العفوي الشعبي بأبهى صورة وسيّرت العواطف مشاعر الناس وحكمت تصرفاتهم وردود أفعالهم. كانت الكويت كلها تتقبل العزاء بشهدائها وتواصلت صور التقارب وآخرها دعوة بعض الإخوة الشيعة لأداء صلاة الجمعة اليوم في المسجد الكبير.

هذا النوع من ردود الأفعال العاطفية العفوية الرائعة التي تعوّدنا عليها بعد كل حدث جلل وابتدأت بزيارة صاحب السمو قائد البلاد إلى مكان التفجير مردداً كلمة: هذولا عيالنا، أمر محمود و ساهم في جزء كبير من المواساة وتخفيف المصاب عن من تأثر بالحدث.

ولكن، مهما كانت العواطف جزءاً مساهماً في الرد على محاولات استهداف وحدتنا من قبل الخارج إلا أنها في النهاية لا يمكنها أن تحل محل العقل أو التفكير الجدي في حل جذور مشكلة كان الحدث إفرازاً لها، ويمكن القول بكل موضوعية ومن أجل تحصين مجتمعنا وتأسيس بيئة صحية لأبنائنا تضمن استمرارية وجود كويت تسعهم جميعاً أنه لابد من البدء بتغليب العقل والتفكير بشكل منطقي بعيداً عن العاطفة.

بداية، علينا أن نعرف أن المشكلة ليست في كون فلان سنياً وفلان شيعياً، ولذلك فشعار «لا فرق بين سني وشيعي» هو شعار عاطفي غير عقلاني. المشكلة تكمن في رفضنا للآخر كما هو وفي الرغبة في فرض الإجماع وهي الرغبة التي انتقلت لاحقاً إلى فرض الانقسام. بمعنى آخر هناك من يريد إلغاء التنوع عبر فرض ما يراه إجماع الأمة وهناك من يريد أن يفرض الانقسام لأن الإجماع كما يراه لم يتحقق.

إما أن نستوعب ونقبل أننا كمسلمين ننتمي إلى مذاهب مختلفة وكل منّا حر في اختيار مذهبه ولا وصاية لأحد على الآخر في اختياراته، وإما أن نستمر في الشحن والعصبية والتطرف والتعبئة وبث الأحقاد فعليّاً وفي الأماكن المغلقة… ثم نتلاقى ظاهريّاً ونقول في العلن إن لا فرق بين أتباع هذا المذهب أو ذاك ونغلّفها بشوية كلمات «توحيد وتضامن».

المفروض أن نكون واضحين في النقاش والتفكير في كيفية العيش المشترك بين السنة والشيعة وبين المسلمين وغيرهم مع احترام كل منّا لخصوصية الآخر.ومعروفة القاعدة الذهبية التي تقول إن اختلاف الفقهاء رحمة لأنه يوجب إعمال العقل واستنباط أحكام شرعية متوافقة مع الحاجة المستمرة للناس، في حين أن الخلاف يوجب الانتصار للرأي وللذات مما يوقع الناس في الكراهية والبغضاء… نريد الاختلاف ونريده لخدمة الناس والدين ولا نريد الخلاف الناتج كما ذكرنا عن رفض بعضنا القبول بالآخر كما هو.

والمجال لا يتسع هنا لشواهد التاريخ عن موروثنا في هذا المجال، بدءاً من سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي رفض أن يصلي في كنيسة القيامة كي لا يحولها متحمس أو عاطفي لاحقاً إلى مسجد، مروراً بالدولة الأموية التي كانت الكنائس تحيط بدار خلافتها في المسجد الأموي الكبير إضافة إلى الكنيس اليهودي، والدولة العباسية التي ما زالت شواهد احتفاظها بدور العبادة المسيحية واليهودية ومعابد الصابئة دالة على قبول الآخر من جهة وعلى حماية الدولة المركزية لحقوق الآخر وحرياته ومعتقداته.

هذا الكلام وغيره كان ينطبق على المسلمين في تعاملهم مع غير المسلمين فهل وصل بنا التخلف إلى مرحلة الشحن بين أبناء الإسلام أنفسهم؟ وهل نحن جديرون فعلاً بحمل هذه الرسالة العظيمة أم أصبحت عصبياتنا تحرّكنا كالقطيع؟

لسنا هنا في وارد الدعوة إلى التعايش بين المذاهب ولا بين الإسلام وغيره، فالتعايش يحمل معنى الاضطرار أحياناً ومعنى الإرغام أحياناً أخرى. نحن من دعاة العيش المشترك المرتكز على قبول الآخر كما هو في ظل المواطنة والدستور ومبادئ الحرية المسؤولة المحددة للحقوق والواجبات.

كان يمكن أن أنهي المقال هنا وبفكرته الرئيسة إلا أن تفصيلاً في غاية الأهمية يجبرني على المتابعة عند الحديث عن اختلاف المذاهب. أنا واثق أن جزءاً كبيراً من الجيل الجديد من السنة في مجتمعنا لايعرف أن هناك أربعة مذاهب أساسية لأهل السنة إضافة إلى أخرى فرعية، لكن المذاهب الأربعة الرئيسة تجمع كلها على الأصول الكبرى لشريعة الإسلام بينما يختلف أئمتها على أغلب مادون تلك الأصول من جزئيات… بل إن الخلاف في الفروع لا في الأصول بين بعض هذه المذاهب يتجاوز بكثير الخلاف بين بعضها والمذهب الجعفري مثلاً.

وأنا على يقين كذلك أن أغلب أبناء الجيل الجديد من الشباب الكويتي من أهل السنة لايعرف لأي من المذاهب الأربعة ينتمي . وهذا الأمر ينطبق أيضاً على الجيل الجديد من الشيعة عندما يتعلق الأمر بالمدارس الفقهية والتقليد.

اتضحت الصورة؟ أتمنـى ذلك، ويجب أن نتفاهم على أسلوب ووجوب العيش المشترك بوجود المذاهب المختلفة التي ننتمي إليها، ويجب أن نؤمن أن مسؤولية إقصاء أي متطرف موتور من أبناء أي طائفة بمن فيهم أصحاب الحسابات السياسية والمتكسّبون تكمن بيد أبناء الطائفة نفسها، أي أن أهل السنة هم الذين يتولون محاربة أي نزعة تعصب وتطرف لديهم وأهل الشيعة كذلك. ولنبدأ في وضع أسس منهجية جديدة متطورة للتعايش بين كل أفراد المجتمع تقوم على العقلانية في كيفية العيش المشترك بعيداً عن العواطف وفي إطار احترام خصوصيات المعتقدات والحريات الشخصية مع ضمان بقاء الجميع تحت سقف الدستور والقانون.

نختم بالإشادة مجدداً بالروح الوطنية العاطفية العالية التي سادت الكويت بعد التفجير، ونعلم أن دعوات الصلاة المشتركة في المسجد الكبير ستلقى تجاوباً، لكن الحل ليس هنا فقط لأن العدد يقيناً سيقل بشكل كبير لاحقاً، الحل في البذرة الصالحة التي ستنبت الشجرة الطيبة إن أحسنا غرسها في عقول أبنائنا، سنة وشيعة، ثم رعايتها. والتي تكمن في إقناعهم أن المسجد الكبير وكل مساجد الكويت ليست حكراً على طائفة معينة، وأن بيوت الله هي لجميع خلق الله. ولكن لاشيء ينتقص من وطنية وولاء أي كويتي،على اختلاف مذاهبهم، إن أدى صلاته في المكان الذي يختاره ثم عاد إلى العمل، ويده بيد أخيه في المواطنة… إنه الطريق الوحيد البديل للخلاص من آفة لا يعلم سوى الله سبحانه وتعالى كم يمكن أن يكون عدد ضحاياها.


&