&نوال السعداوى

&

&

&

صوته لم أسمعه من قبل، ليس فيه ذكورة أو أنوثة، شجن رقيق من الزمن البعيد قبل العبودية، يسرى كضوء الفجر، لا يطأطىءالرأس ولا يقبل الظلم ،


كنت أعيش فى صحراء مكتظة بالبشر، رجال ونساء يرتدون وجوها أنيقة وأحذية لامعة، والأغلبية بلا أحذية ولا وجوه، القلوب تحجرت والضمير مات، أمشى فى الظلمة بكشافى الصغير، أعرف أنه ينتظرنى فى نهاية الطريق، ستزل قدمى من التعب وطول المسافة ، سأسقط وأشد نفسى من مخالب القدر وأنهض، سأسقط وأنهض ولن أعرف اليأس أبدا.


سمعت صوته وسط عواصف التراب وانفجارات الإرهاب، وانقطاع الماء والكهرباء، الحر فى شهر يوليو والناس صيام، الأعصاب مشدودة والشوارع مسدودة والأنفاس مخنوقة، تتخفى السماء وراء أعمدة الصحف والدخان، الناس يسيرون كالنيام، حالة وسطية بين النوم والموت، منطقة هلامية رمادية، يتغنى الزعماء بالوسطية، نقطة الصفر فى الحبل المشدود، انعدام الرؤية باسم التوازن، لا ندرى والله أعلم، لا مدنية ولا دينية، لا شك ولا يقين، لا حقيقة مطلقة وكل شىء نسبى

&

فى طريقى مستشفيات ومحاكم وسجون، شباب وشابات لهم عيون العجائز، طوابير الأمهات الواقفات أمام الباب أو جالسات على الأرض من شدة الإنهاك، فوق صدورهن أطفال نائمون فى غيبوبة كالموت، أو يترنحون على أقدام صغيرة حافية، تدوس عليها الأحذية الجلدية للسادة الأطباء والمحامين والسجانين، الداخلين والخارجين، مات شاب من الضرب فقال الطبيب الشرعى: نوبة قلبية والوفاة طبيعية، مات طفل فى عملية ختان فقال الطبيب للأب: لا أحد يموت بغير إرادة الله، ماتت فتاة فى عملية إسقاط الجنين، فقال الجراح للأم: الله يحرم الإجهاض.

&

وقال الزوج العلمانى للقاضى: ليس هناك خيانة زوجية مطلقة وكل شيء نسبى، وقال السلفى العجوز إن زواجه بالطفلة القاصر مشروع بأمر الله، وأعلن الزعيم الشيوعى بعد انفجارات الإرهاب الأخيرة أنه أخطأ فى تدعيم الإخوان وجل من لا يخطىء.

&

وقال الفنان الشهير لحبيبته: أحبك إلى الأبد والله يشهد، صدقته الفتاة، ثم حملت وأنجبت بعد تسعة أشهر طفلهما له أنف الأب الذى أنكر وقال ليس ابنى، قالت الأم: أنظروا الى الأنف، قالت المحكمة: لا ننظر الى الأنوف بل الى الأوراق والشهادات، قالت الأم: كان الله شاهدا علينا، قال القاضى: شهادة الله ليست بملف القضية إحضرى ورقة المأذون ؟ قالت الأم: وهل الورقة أكبر من الله؟ ألا ترددون الله أكبر بمكبرات الصوت من فوق المآذن كل لحظة؟

&

قال القاضى، لا نعترف إلا بالدليل المادى هاتى نتيجة «الدى إن إيّه» رفض الأب أن يرضخ للتحليل، فالرضوخ إهانة للرجولة، أصبحت الألسنة تنهش الأم ولا أحد يمس الأب، ثم صعدت روح القاضى للسماء، وجاء قاض من شباب الثورة يؤمن العدل، نظر للقضية بالعقل، أمامه اعترافات الشهود تثبت أن الأب كان يعيش مع الأم فى بيتها، وكان بينهما حياة الزوجين المشتركة، يسافران معا فى الإجازات ، يزورهما الناس فى الاحتفالات، التقطت لهما الصور معا، حملت منه وأنجبت طفلهما، توافرت دلائل ثبوت النسب بالفراش، لكن الأب استمر فى إنكار أبوته للطفل، ولم يقدم الدليل على انعدام العلاقة الزوجية بينه وبين الأم، كما إمتنع عن الخضوع لإجراء تحليل البصمة الوراثية لبيان ما إذا كان الطفل ابنه ومن مائه أم لا، الأمر الذى يثبت أن الطفل هو إبنه، وتكون دعوى الأم قد أقيمت على سند صحيح من الواقع والشرع والقانون، لهذا تستجيب المحكمة لطلب الأم وتثبت نسب الطفل لأبيه.

&

أطلقت الأم والنساء الزغاريد، وكان الطفل يتابع القضية منذ مولده حتى تعلم النطق، كانت قضايا النسب والنفقة والرجعة والعدة والحيض والنفاس وكل أمور النساء، تستمر العام وراء العام، وتسقط مع الزمن أو موت الأم، وحين سمع الطفل قرار المحكمة انتفض من فوق صدر أمه وصاح معترضا: لن أحمل إسم أبى الندل.

&

ضجت المحكمة بأصوات مندهشة: أيتكلم الطفل فى المهد؟ هل عاد المسيح إبن مريم لينقذ العالم من الفساد؟ وأصوات أخرى غاضبة اتهمت الطفل بإزدراء الذات الأبوية العليا وإنكار المعلوم من الدين.

&

صوته طفولى عذب، ليس فيه رجولة ولا أنوثة، فيه كرامة وعزة النفس، يمسح عنى تراب الطريق ومشقة السفر، أعود طفلة تجرى على الشاطىء، أجمع فى يدى زهرات الياسمين، ينتشر عبيرها فى الكون، وتشرق الشمس فى يوم جديد، وفى الليل يظهر القمر بضوئه الفضى، يصغر حجمه ويصغر ويختفى ثم يظهر من جديد، وأسأل أمى: هل يعيش القمر والشمس للأبد؟ تضحك أمى وتنادينى من الشاطىء البعيد فأسبح إليها كالسمكة، وتعود ذاكرتى إلى أوراقى التى بعثرها الريح، كنت أكتب على وجه القمر وأنسى الزمن، تفوتنى مواعيد الأكل والشرب والنوم، تمنحنى الكتابة الاكتفاء والاستغناء، وكان للأطفال كرامة العظماء.

&