عبدالحق عزوزي

لا شك أن إعادة بناء الدول والأمصار بعد سقوط نظام عسكري أو ديكتاتوري من أعقد المهمات وأصعبها... وقد لا يعني ذلك البتة حلول الديمقراطية والانفتاح السياسي والاقتصادي والقطيعة مع النزعة الشمولية بشكل تلقائي، بل إذا لم تكن في الدولة نخب متمكنة ومجتمع سياسي ومدني متبصر، فقد يعني ذلك، مجيء سنوات عجاف من اللا يقين واللامسؤولية والفتن ما ظهر منها وما بطن! ولذا فإن كل العلماء الذين تناولوا بالبحث والتنقيب قواعد التحول الديمقراطي بدراسة السوابق في أوروبا العجوز وأميركا ثم أوروبا المتوسطية (إسبانيا، اليونان، البرتغال) وأميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية، ميزوا بين الانتقال الديمقراطي وتجذير الديمقراطية، لأن الأولى قد تؤدي إلى شيوع النزاعات بل وإلى صراعات غير مألوفة كما هو الحال في البعد الطائفي اليوم في العراق وسوريا وليبيا.

ولكن الداهية العظمى والمصيبة العاتية التي لم تكن في زمن منظّرين مثل «خوان لينز» و«فيليب شميتر» و«تيري كارل»، عندما نظّروا للانتقالات الديمقراطية في تلك البلدان، وهي المصيبة الموجودة بطريقة غير مألوفة في بعض بلدان الوطن العربي، تكمن في تواجد إرهاب غاشم لم تعهده البشرية من قبل، يزلزل كل الاحتمالات السياسية، ويجعل من المسلسلات الانتخابية ولمّ شمل الأطياف المجتمعية والسياسية أمراً صعباً. وخذ هنا مثال تونس، فذلك البلد عرف منذ خلع الرئيس الأسبق بن علي مسلسلًا ينم عن وعي سياسي وديمقراطي، لتواجد نخب واعية، وقبول تلك النخب، ولو على مضض، بمبدأ توزيع السلطة واقتسامها على أساس توافق سياسي وانتخابي يقوم على مرجعية ميزان القوى وإرادة الرأي العام.. ثم يأتي الهجوم الإرهابي الأول على متحف «باردو»، وهجوم ثانٍ على فندقين بمدينة سوسة بتونس أوقع لوحده 39 قتيلاً، لتتوقف بصفة درامية معالم وروح الثقة السياسية والاقتصادية، فالدول الأجنبية تحذر رعاياها من زيارة تونس، والبلد يعلن حالة طوارئ، والاستثمارات الأجنبية الضخمة تتراجع وتغيّر اتجاهها، لتطرق أبواب دول أخرى.

&



وقد أصبح الإرهاب اليوم فاعلًا خطيراً في تقويض القشرة الحامية للدول، وهذا الإرهاب هو تلوث فكري وأيديولوجي يصعب تطويقه أو محاربته أو مراقبته، وتكفي عملية إرهابية واحدة لإرهابي واحد متشبع بأفكار الظلاميين، والتكفيريين، ومتسلح بسلاح بسيط ليودي بحياة العشرات من البشر في رمشة عين، وهو ما لم يعهده الإرهاب الكلاسيكي طيلة العقود بل القرون الماضية.

وثمة مثال آخر يمكن سرده أيضاً هو ليبيا. فالعديد من أطراف النزاع هناك وقعت مؤخراً في مدينة الصخيرات المغربية، بعد أربع سنوات من سقوط حكم العقيد القذافي، بالأحرف الأولى على اتفاق سلام ومصالحة يفتح الطريق أمام تشكيل حكومة وطنية، ولكن على أرض الواقع نرى مليشيات عسكرية ومجموعات إرهابية تتصارع وتتوسع وتستولي على خيرات البلاد، ف«داعش» يتوسع على الأرض في غياب الدولة الموحدة، ويلتف الآن للسيطرة على الهلال النفطي، وما أدراك ما هذا الهلال الجغرافي الذي يضم أكثر من 60 في المئة من نفط ليبيا.

فكيف سيقضى إذن على هذه الجماعات الإرهابية المسلحة حتى النخاع والمنتشرة فرادى وجماعات هنا وهناك، ولها أنصار كثر يحملون الأسلحة المتوسطة والثقيلة في بنغازي ودرنة وسبها وغيرها. صحيح أن هناك مشاكل أخرى تحوم حول الاتفاق التاريخي الذي وقع في الصخيرات ولكن المشكل الإرهابي يبقى هو الأخطر.

وهناك طبعاً معضلة اقتراب الموعد القانوني لانتهاء أعمال البرلمان الحالي في 21 أكتوبر المقبل، وكذلك معضلة كيفية تقريب القلوب والنوايا بين أعداء الأمس واليوم كما هو الحال بين شركاء ثورة فبراير، والتيار المدني من جهة أخرى، الذين اقتتلوا وقضوا بصواريخهم على مطارات ومصافٍ للنفط بل وعلى مدن بأسرها ولا حول ولا قوة إلا بالله. وهذه المشاكل كلها يمكن التغلب عليها بالإرادة الجماعية وتغليب مصلحة البلد على المصالح الذاتية والقبلية، والسير بعيداً باتفاق الصخيرات وإنشاء حكومة اتفاق وطني، ولكن ما أخشاه هو الفيروس الإرهابي، الذي وطد دعائمه في البلد، فهو لا يؤمن بحكومة ولا مصالحة ولا بليبيا ولا بمصلحة الليبيين، وسيضع أي اتفاق وأية حكومة على المحك.

والراهن أن الاتحاد الأوروبي القريب من الضفة الجنوبية للمتوسط، مطالب بتثمين، ومصاحبة اتفاق الصخيرات، وتشجيع الأطراف على بناء حكومة وحدة وطنية مصحوبة بجيش قوي له كل الإمكانات المتطورة لتثبيت الأمن في ليبيا واقتلاع جذور تنظيم «داعش» وأمثاله، وإلا ستنهار الدولة ومعها كل بوادر الانفراج الحالية. وقد تدخلت فرنسا عسكرياً لوحدها في مالي وأعادت الروح إلى ذلك البلد الذي كان قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح في أحضان الجماعات الإرهابية. وليبيا دولة تستلزم تحركاً استراتيجياً أسرع، وعيدكم مبارك سعيد.
&