&أمل عبد العزيز الهزاني

الأمير بندر بن سلطان، السفير السعودي السابق في واشنطن لربع قرن، والخبير الاستخباراتي والأمني السعودي السابق، كتب رسالة نشرتها صحيفة «إيلاف» الإلكترونية عن الاتفاق الذي تم توقيعه مؤخرا بين القوى الست الكبرى وإيران حول برنامجها النووي، يفهم منها أن العراب باراك أوباما يرتكب بهذا الاتفاق خطأ استراتيجيا وهو بكامل الإدراك لتداعياته، مما سيحيل المنطقة إلى مزيد من الفوضى، قياسا على اتفاقية بيل كلينتون مع كوريا الشمالية التي أمست بعد الاتفاقية دولة نووية.


ولأهمية صاحب الرأي، تناقلت وسائل الإعلام الغربية الرسالة التي سلبت من الاهتمام ما كان من نصيب الاحتفاء بالاتفاق، ما دعا مستشار مكتب الرئيس أوباما إلى الرد بأن «الرسالة مثيرة جدا» كون الأمير «يتحدث عن زمن آخر، ومتعاطف مع حزب آخر يبدأ اسمه بحرف الجيم»..


رسالة الأمير بندر في «إيلاف» ليست مفصلة، ولكنها مفهومة، واستشهاده باتفاق كلينتون مع كوريا الشمالية جاء لتطابق المناسبتين، وليس لإظهار أن السعوديين لا يتفقون مع الحزب الذي يبدأ اسمه بحرف الدال..
من الأهمية بمكان، القول إن الزمن الآخر، وكل الأزمنة ذات العلاقة، جديرة بالدراسة والتمحيص لاستخلاص التجربة وفهم تاريخ المنطقة واتجاه جريان الأحداث فيها، وإن العكس هو سبب الوقوع في الأخطاء المريعة ومن ثم تحمل عواقبها. يمكن ذكر أمثلة كثيرة على اختلاف أو توافق واشنطن مع الرياض خلال فترات حكم كلا الحزبين إبان عمل الأمير بندر في واشنطن، مواقف وقصص ظهر منها القليل للإعلام، والكثير يفترض أن يكون في جعبة أوباما ومستشاريه. منها وفي زمن ليس ببعيد اللقاء الذي جمع الأمير بندر مع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن صيف عام 2002 في مزرعة الأخير في كراوفورد بتكساس، وكانت قد راجت أقاويل عن استعداد واشنطن لعمل عسكري ضد العراق لإسقاط نظام صدام حسين. أوضح الأمير بندر أن السعودية ضد هذا التوجه، وأنها لن تكون طرفا داعما لوجيستيا لهذه الحرب. كان الموقف السعودي لا يتفق مع رأي نائب الرئيس، ديك تشيني بأنه «إذا أقصي صدام حسين فإن المتطرفين سيفرون، وسيزداد دور المعتدلين». التحليل السعودي كان يرى العكس، أن التطرف سيعم المنطقة، وأن المعتدلين سيتوارون خلف الشمس. تمسك كل طرف برأيه وحصلت الحرب، وغني عن القول معرفة أي منهما كان على حق..


بما يشبه الفوز بكأس العالم، كاد وزير خارجية إيران، والمفاوض أمام القوى العالمية الست، محمد جواد ظريف يطير فرحا بتوقيعه على الاتفاق النووي. هل هذه فرحة النجاة من غضب الغرب؟ أم رفع العقوبات الاقتصادية؟ بالدرجة الأولى، تبدو أنها فرحة عودة العلاقة مع واشنطن، وكل ما يأتي بعد ذلك نافلة.
لا يمكن للمرء في هذه المرحلة التاريخية المهمة، إلا أن يقرأ بتمعن مضمون الاتفاق وتداعياته. القانوني الذي كتب نص الاتفاق متلبس بشيطان، تعمد أن تكون بعض أجزاء الاتفاق أشبه بالطلاسم، مع ذلك يمكن ملاحظة ثغرات حول آلية تنفيذ الاتفاق بتفاصيله الفنية. رغم هذا لا أشك في التزام إيران بالاتفاق، لسببين، الأول أن الهدف الذي من أجله خاضت غمار التجربة النووية، أي أن تكون قوة مهيمنة في الشرق الأوسط، قد تحقق لها في العراق وسوريا ولبنان وغزة، وبدرجة أقل في البحرين واليمن. والسبب الثاني أنها تواقة لبداية صفحة جديدة مع واشنطن، ولن تتردد في توطيد علاقتها معها على كل المستويات.
لا تستهينوا بخصومة أميركا لإيران وأثرها في الصورة العامة للأخيرة في العالم. على مدار عقدين ونصف من الزمن، حاولت إيران أن تضايق أميركا بضرب مصالحها في المنطقة انتقاما من مهانة الازدراء، وانتقاص القدر اللذين كانت واشنطن تمعن فيهما. في سبتمبر (أيلول) من كل عام، موعد انعقاد الجمعية العامة في نيويورك، كانت وفود الدول تحظى باستقبال رسمي لائق عدا الفريق الإيراني الذي كان يبدو كأنه عابر سبيل في حفل عائلي. طهران اليوم فهمت الدرس، بأن خصومتها مع الغرب تعني تجردها من قيمتها الدولية، أدركت أنه مهما بدا الاختلاف في سياسات الطرفين فإن قطع العلاقة يعني أن تعيش منبوذة، مكروهة، مشبوهة، وأقل احتراما.
أما واقع ما بعد الاتفاق فهو معقد على كل الأطراف، الغرب وإيران ودول الخليج. في الداخل الإيراني، الأجنحة ليست متفقة، ولكن المرشد الأعلى لن يفرط في هدية أوباما، وسيحميها على الأقل لخمس سنوات قادمة، وهي مدة كافية لإعادة إنعاش الاقتصاد الإيراني وتوطيد العلاقة التجارية مع أوروبا وأميركا، مع أهمية التذكير، أن المسافة الزمنية التي تفصل بين إيران وتصنيع القنبلة النووية من 6 - 12 شهرا، قد تقضيها وكالة الطاقة الذرية وهي تتجادل وتوضب أوراقها وتكتب تقاريرها.


العرب بالعموم، ودول الخليج خاصة، والسعودية بشكل أخص، تؤيد اتفاقا يوقف جموح إيران النووي، ولكنها تعتقد أن إيران قدمت أقل مما حصلت عليه، والغرب تنازل أكثر مما نال، ومع تبدد التفرد بالحلم النووي، تبقى إيران بعد الاتفاق منتعشة اقتصاديا، قدرتها على الإنفاق العسكري مضاعفة مع تلاشي الضغوط الغربية، وزيادة مساحة تحركاتها. إصرار أوباما على الاتفاق، بمغامرته بحلفائه العرب، وتحديه للكونغرس، يشي برغبة عميقة للتصالح مع الإيرانيين مهما كلف الأمر، وتغير في نظرته إليهم من خصوم إلى حلفاء محتملين للقضاء على «داعش» وهندسة حل مشترك للقضية السورية وتوافق متوقع للمسألة العراقية واليمنية واللبنانية. خلال زهاء عامين من المفاوضات، كان أوباما موهوما بأن عودة العلاقة مع إيران ستصب في صالح الولايات المتحدة، أو على الأقل أن خصومته معها لم تكن ذات جدوى للأميركيين لا في العراق ولا أفغانستان.
في المؤتمر الصحافي له بعد توقيع الاتفاق، انهالت على الرئيس الأميركي أسئلة الصحافيين حول مستقبل المنطقة بعد هذه الاتفاقية، نحو 15 سؤالا كان جوابها واحدا لم يتغير: «استطعنا أن نمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، ولا علاقة للاتفاق بالسلوك الإيراني في المنطقة، وعلى من يرفض هذا الاتفاق في الشرق الأوسط أو الكونغرس أن يقول لنا ما هو البديل عنه سوى الحرب». جواب فقير بالحقيقة ضعيف في الحجة، الرد المناسب عليه جاء من رئيس الحكومة الإسرائيليلة بنيامين نتنياهو، بأن البديل ليس الحرب كما يزعم أوباما، بل «اتفاق أفضل». نتنياهو ليس قلقا من عدم التزام إيران بالاتفاق، بل يخشى أن المائة مليار دولار، الدفعة الأولى من حزمة المكافأة الأميركية لطهران، ستذهب لتسليح حزب الله.


كل عوامل التشاؤم ليست خافية، فالاتفاق النووي شرّع ممارسات إيران الإرهابية وتقبلها بسلوكها الإجرامي، وهذا سيعيد ترتيب أوراق المنطقة وكأننا في شرق أوسط بإصدار جديد، سيحتم على الخليجيين، وليس فقط السعودية، إعادة النظر في أمور اعتبروها سابقا من الرفاهية، فيما يخص لحمتهم الأمنية والعسكرية والاقتصادية والسياسية، والإقدام على إقامة تحالفات جديدة، وتنظيم بيتهم الداخلي ليكون أكثر استقرارا. ربما الرياح القادمة تحمل نذرا لا تسر، ولكنها فرصة إيجابية للتهيئة وإعادة البناء على أسس ذاتية.


الأصدقاء يا سمو الأمير مصدر قلق منذ أكثر من عقد، وهذا مقبول، فالعلاقة مع الكبار مثل الذهب، تحتاج إلى المرور على النار بين الحين والآخر لتزداد ألقا، أما أن يكونوا مصدرا للضرر فمن دواعي الكدر الحذر من الصديق، وإن دعت الضرورة، فالحذر بالتأهب لا بالترقب، كما علمنا المتنبي:


فما ينفع الأسد الحياء من الطَّوَى.. ولا تُتَقى، حتى تكون ضواريا..