عبدالله ناصر العتيبي

لسنوات طويلة، ظلت طهران ترعى «الخلايا النائمة» في دول المنطقة وتمدها بأسباب البقاء، سواء على المستوى المادي أم على المستوى الفكري. وكانت في كل مرة تنكشف علاقتها بهذه الخلايا، تلتف حول عنق الحقيقة وتغلف موقفها بغطاء ديبلوماسي من الكلمات الباردة.

كانت طهران تعتمد هذه الإستراتيجية لبعض الوقت، لكن يبدو أن «كل الوقت» أجبرها على أن تدعم «الخلايا اليقظة» بدل الخلايا النائمة.

كانت «منظمة بدر» في العراق (تأسست في 1980) و «حزب الله» في لبنان (تأسس في 1982) هما كل الخلايا اليقظة للنظام الإيراني في المنطقة إلى وقت قريب، وكان لكل منهما ظروفه الخاصة التي جعلت منه تشكيلاً يقظاً. فالأول استمد يقظته من حاجة الإيرانيين إلى وجود قوى ظاهرة وواضحة للعيان في العمق العراقي للعمل على إسقاط نظام صدام حسين وتقويضه من الداخل، وخلق حال إرباك للجبهة الداخلية تساهم في تعجيل انتصار الخمينيين، ولمّا لم تكن الخلايا النائمة لتفي بهذا الغرض الرئيس، كان لزاماً على الإيرانيين أن يتبنوا «فيلق بدر» قولاً وفعلاً وإعلاماً ورسمياً، لعله يحقق ما لم يحققه المجهود الحربي.

أما «حزب الله» في لبنان، فلم يكن هناك داعٍ لصناعته في الخفاء، فالظروف اللبنانية حينها - ولا تزال - كانت مواتية لإدخال التشكيلات ذات الوجوه المحلية والمرجعيات الأجنبية، كون البلد كان (وما زال) مقسماً على المسطرة الطائفية والإثنية، وخاضعاً لإمرة عصا الفرقة التي كانت - ولا تزال - على استعداد لاستضافة الشيطان والملاك على طاولة واحدة. كان من السهولة جداً اختيار المكان والزمان المناسبين لزراعة «حزب الله»، وكان من الأسهل إدخال الحزب في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية اللبنانية، اعتماداً على تناقضات الوضع اللبناني وقابلية زعامات الطوائف والأقليات والجماعات المتحاربة للتنقل من حضن إلى آخر، سعياً خلف المصالح الشخصية والمكاسب الآنية.

لكن السؤال يبقى: لماذا تسعى إيران دائماً إلى تجاوز حدودها وخلق شبح الخميني من جديد في دول المنطقة؟

منذ الثورة الخمينية في العام 1979 وحتى اليوم والنظام الحاكم في طهران يعمل على توطيد حكمه الشمولي بطرق شتّى. جاء الخمينيون للإيرانيين على ظهر الثورة مبشرين بالديموقراطية، لكنهم استبدلوها ما إن خضعت لهم الرقاب بالديكتاتورية. ولتجاوز مأزق النظرية الديموقراطية والتطبيق الديكتاتوري، سعوا على الدوام إلى إبقاء الشعب في حال طوارئ تنسيه الشعارات الأولى للثورة التي كانت تتحدث عن حرية الشعب ورفاهه وحكمه لنفسه. اختار النظام طريقة حكم مرسومة بعناية تجعل الناس في مختلف الأراضي الإيرانية، غصباً أو إيماناً، خاضعين لفكرة ولاية الآيات وانفرادهم بالسلطة المطلقة.

طرق كثيرة اعتمدها الآيات خلال السنوات الست والثلاثين الماضية لإلهاء الشعب الإيراني وتضليله وتجهيله، لكن كانت هناك طريقتان رئيستان ظلتا على الدوام فاعلتين حتى اليوم.

الأولى هي إفقار الشعب الإيراني ووضعه تحت القبضة الأمنية الحديدية، بحيث ينشغل دائماً بنصف الدائرة السفلى المتمثل في الجري القاتل خلف الرغيف، ورعاية هذا الماراثون اليومي الذي يشترك فيه الصغير والكبير والفارسي والبلوشي والعربي والكردي والآذري والتركماني، بهراوات الباسيج وسياطهم. كانت هذه الطريقة كفيلة بإبقاء الناس في النصف السفلي من الدائرة من غير أن تكون لهم القدرة، فضلاً عن الرغبة في النظر إلى «زخرف الحكم» في نصف الدائرة العلوي. «لنأكل أولاً ثم نمد نظرنا إلى ما هو خلف سور الحاجة والفقر»، ظل الإيرانيون طوال هذه السنوات مخلصين لهذا القول، مؤمنين به، شادين بالنواجذ عليه، في بلد يعتبر بالمقاييس كافة من أغنى بلاد العالم.

الطريقة الثانية كانت مد الأذرع الثورية خلف الحدود واستعداء الجيران وإشغالهم بالخلايا النائمة واليقظة، وكل ذلك من أجل خلق حال طوارئ سياسية تتكامل مع حال الطوارئ الاقتصادية الداخلية فتعميان وتضللان وتجهّلان المواطن الإيراني ليبقى أسيراً للخمينية الاستبدادية.

وكانت الإستراتيجية في الطريقة الثانية مثلما ذكرت في أول المقالة تتمثل في دعم الخلايا النائمة في الدول التي يتعذر خلق خلايا يقظة فيها، لكن شرط أن تنشط هذه الخلايا بين الحين والآخر لزرع الحس الخميني القادر على إبقاء العلاقة «الخارجية - الداخلية» مشتعلة مع المواطن الإيراني.

لكن يبدو أخيراً أن الشعب الإيراني بات يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى عدد أكبر من الخلايا اليقظة، فتململه بدأ يظهر للعلن، وثورته الصامتة أخذت في الاتساع أكثر فأكثر، ورفضه لحكم الآيات صار جزءاً من برنامجه اليومي، وهو ما جعل النظام يفكر جدياً في خلق مزيد من الخلايا اليقظة علّها تساعد في عودة الأمور إلى طبيعتها، ولاسيما بعدما فقدت «منظمة بدر» و «حزب الله» الكثير من رصيدهما في الشارع الإيراني.

الحوثي كان خياراً مناسباً لخلية يقظة. فوجوده في جنوب الجزيرة العربية كان ملائماً جداً لأن يكون أحد الأهداف الرئيسة لعملية التضليل والتجهيل من جديد، فهو يقبع في خاصرة السعودية التي هي، وفق الأدبيات الخمينية، العدو الأول للثورة في إيران.

كان الحوثي خياراً مناسباً لخلية يقظة، لكنه كبر من غير مناسبة وتشكل جسداً وقفز على الحكم في اليمن، وهذا ما لا يتناسب مع الهدف الرئيس من إيجاده المتمثل في الكر والفر والبقاء في منطقة وسطى بين الحكم وبين الثورة. الخلية اليقظة لا يمكن أن تكون «خلية حكم»، وهذا ما لم يفهمه عبدالملك الحوثي، بينما وعاه منذ البدء حسن نصرالله المؤمن والفقيه بالنظرية الخمينية، والذي لم يفكر مطلقاً في حكم لبنان؛ لأنه يعلم أن نهايته ونهاية حزبه مرتبطتان بتحول الخلية اليقظة إلى خلية حاكمة.

هنا وهناك وفي هذه المنطقة وتلك، واليوم جاء دور البحرين، لكن البحرين ستظل كما كانت شوكة في قلب الخمينية إلى الأبد. وغداً سيجيء دور دولة خليجية أخرى، وستكون أصلب وأقوى أيضاً، ففي النهاية عندما يتعلق الأمر بمواجهة ما بين نظام ودولة، ستتغلب الدولة، وتنقذ في طريقها شعب النظام وسجناءه.