عمر عبد العزيز

تنطلق النزعة الإمامية الزيدية ذات النفس السلالي من مقاربة فكرية وممارسية مفارقة تماماً لمذهب الإمام المؤسس زيد بن علي، فهذا المؤصِّل الكبير للزيدية الكلامية الدينية المذهبية لم يكن على تشابك خلافي مع الصحابة رضوان الله عليهم، ولا كان متعصباً قائلاً بالمنطق الاصطفائي الخارج من رحم السلالة واستيهاماتها التاريخية، بل كان مُمهداً لتلك الزيدية التي حملت اسمه بالذات، وأعاد إنتاج جواهرها وخياراتها العقلانية الأئمة الكبار أمثال الشوكاني والصنعاني والصالحي، وغيرهم من العلماء الرائين لمعنى الوسطية اليمانية التاريخية.. تلك التي جسَّرت العلاقة المفاهيمية بين الكلام في أبعاده الشافعية، والزيدية، والإباضية.

لكن هذه الحقيقة المقرونة بالكلام والرأي والاجتهاد، كانت تتقاطع على مدى التاريخ المعروف بزيدية الحكم والحاكمية.. المتأسِّية دوماً بالأوهام العرقية الاصطفائية التي ما أزل الله بها من سلطان، ولهذا السبب كانت الفتن والحروب التاريخية التي شهدها اليمن على مدى الصراعات الدموية بين الزيديات السياسية للحاكميات الوراثية السلالية، وصولاً إلى الصراعات التدميرية بين آل حميد الدين وآل الوزير وآل الوريث، وغيرهم، مما هو مسطور في تاريخ اليمن المعاصر.

هذه الحالة التي كانت سبباً في الحروب الداخلية في اليمن، سرعان ما أعادت إنتاج خرائبها عبر الظاهرة الحوثية، فقد تصارع المشروع الحوثي الإمامي السلالي مع مشروع الرئيس السابق علي عبد الله صالح، والذي أجاز لنفسه أن يكون حاكماً أتوقراطياً إطلاقياً على الأرض، بل بدأ يمهد لتوريث الجمهورية الشكلانية لابنه، ومن هنا بدأت شرارة الخلافات غير الحميدة بين نموذجه والحوثيين القائلين بأحقيتهم في استعادة الولاية المخطوفة منذ الخلاف بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من جهة، وكذا بين صالح وحلفائه الأقربين في طغيان القوة والمال من جهة أخرى، وهكذا بدأت شرارة الحرب بين ظلامات الماضي القريب والبعيد، لنصل اليوم إلى الحرب الشاملة التي تتَّسع بسعة المتاهة التي رصف طريقها نظام صالح الظالم لنفسه وأهله.

لقد جرت الحروب على مدى التاريخ المعروف لأسباب تبدو واهية عند أول نظرة، لكن روافعها الحقيقية كانت كامنةً في التعصب والأوهام والنزعات المذهبية والقومية الشوفينية، ولعل مثال الحرب العالمية الأولى يعيدنا إلى ذات المربع الماثل اليوم في اليمن، فقد بدأت شرارة تلك الحرب المدمرة من خلال شاب صربي متهور ومتعصب.. اختُطِف عن ذاته السويَّة من خلال الإيديولوجيا العرقية السلالية الصربية الموشاة بالدين السياسي الأرثوذكسي، وقد جاءت البداية باغتيال رأس الإمبراطورية النمساوية المجرية المتمركزة في قلب أوروبا.

ذلك الشاب الصربي كان قومياً مقيماً في منطق الأقحاح الطُهرانيين، ولم يُكن يدرك الأبعاد الحتمية لذلك الفعل الصغير في ظاهره.. العميق في جوهره، فقد انبرت منذ لحظة الاغتيال كامل الأجندات المتوارية خلف توازنات القوى الأوروبية آنئذٍ.

كانت الإمبراطورية النمساوية المجرية متحالفة مع ألمانيا الفتيَّة.. النامية بقوة الصناعة والتجارة والعلم، وبالمقابل كانت روسيا وفرنسا في حلف موازٍ يحاصر حلف النمسا وألمانيا من الشرق والغرب، فيما كانت بريطانيا وإيطاليا وغيرهما من بلدان القارة العجوز يتحسَّبون لأي متغير طارئ في تلك المنطقة، وهكذا انطلقت الشرارة الأولى بعد حادثة الاغتيال، لتُعلن ألمانيا والنمسا حرباً سافرة على الإقليم الصربي السلافي، ولتنبري روسيا وفرنسا لاحقاً، وتنخرط في هذه الحرب المدمرة.&

ما أشبه الليلة بالبارحة، ويا له من تشابه ظاهر بين ذلك الغلام الصربي ذي العشرين عاماً والذي قام باغتيال إمبراطور النمسا والمجر ليمهد لنشوب حرب عالمية، و زعيم الحوثيين الفتيِّ الصغير سناً وخبرة، والذي يصر على الاستمرار في متاهة حرب مدمرة لبلاده، من خلال إقامته في الاستيهامات المذهبية، والتعصب العرقي السلالي حيناً، وطوراً عبر وهم الوراثة الاصطفائية، المناقضة لحقيقة وجودية إنسانية.. مزاجها الخلاسية العرقية الجبرية التي لا مفر لأحدٍ منها.

عندما شنَّ نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح سلسلة حروبه الظالمة على صعدة، كان الشارع اليمني بإجماعه ونخبه متعاطفاً مع الصعداويين المظلومين، وحالما انخرط أهل صعدة ونواحيها في الانتفاضة الشبابية الشعبية السلمية ضد نظام صالح بدت صورتهم أقرب إلى التناغم مع المطالب الجماهيرية المشروعة وعناوينها الرئيسية: القضية الجنوبية، والإصلاح، والدولة الحديثة، والمأسسة، والمواطنة المتساوية، والنظام الاتحادي اللامركزي.&

وعندما أعلن الحوثيون انخراطهم في العمل السياسي بصفتهم حزباً مُسجلاً ومُشرعناً كغيره من الأحزاب.. أحسن الجميع الظن بحزب «أنصار الله»، واعتبروه رافداً من روافد العملية السياسية.. لكن هذه الصورة انقلبت رأساً على عقب بمجرد انخراطهم في تحالف ميكافيللي مع مشروع صالح «الجوفمعوي»، وقبولهم بأن يكونوا رأس حربة في معادلة مُشينة، تقضي بالتحالف السافر مع ظالميهم بالأمس القريب، وإسهامهم المنهجي في تقويض حكومة الوفاق الوطني، واجتراح سلسلة من التحريجات البراغماتية، لتبرير الانقلاب على الشرعية التوافقية الناجمة عن المبادرة الخليجية، ونتائج مؤتمر الحوار الوطني ودستور الدولة، مع العلم يقيناً بأن الحوثيين والصالحيين وافقوا على تلك المرجعيات، وساهموا في تعميمها الضمني ظاهراً، فيما استنبطوا «التُّقية» السياسية المخاتلة، حتى أوصلوا البلاد والعباد إلى ما هو مشهود اليوم من تراجيديا إنسانية فاقعة اللون.

لكن الأدهى والأمر.. ذلك التداعي الغرائبي مع مخططات ملالي طهران الإقليمية الجهنمية، والتسارع المحموم في مفارقة التاريخ والجغرافيا والحكمة اليمانية، وصولاً إلى الاستنساخ الأهوج لموديلات بعيدة كل البعد عن تاريخ اليمن وجغرافيته وثقافته التاريخية الأنثربولوجية.

هذا المقال اعتنى ويعتني بالأسباب العميقة وراء ما يحدث اليوم.. ذلك هو الزمن المفاهيمي للمقال، وهنا أعترف بأنني لست بصدد الراهن والقادم، فذلك أمر له حديث آخر.