بهجت قرني

مصداقية أي علم - من الطب إلى الهندسة إلى الاقتصاد - تتمثل في قدرته على فهم المشاكل التي تحيط بنا، فهل يستطيع «علم العلاقات الدولية» اجتياز هذا الاختبار؟ وما مصداقيته بالنسبة لما حدث في أزمتي اليونان الاقتصادية وإيران النووية؟ ولنبدأ بمثل سابق.

عندما أسقطت الولايات المتحدة قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين استسلمت اليابان وانتهت الحرب العالمية الثانية، ولم تحدث حرب عالمية أو مواجهة عسكرية مباشرة بين الدول الكبرى منذ ذلك التاريخ، واستخلص بعض خبراء العلاقات الدولية أن الأسلحة النووية أدت إلى الاستقرار العالمي، وهذا مبالغ فيه، لأنه بعد توقف الحرب العالمية الثانية انتشرت الحروب الإقليمية والحروب الأهلية كالنار في الهشيم، وكانت تلك نهاية حقبة في إدارة النظام الدولي ارتكزت على مفهوم وممارسة «ميزان القوى» ليحل محله مفهوم آخر: الردع النووي أو ميزان الرعب.

وعلى نفس المنوال تقريباً، هل يستطيع علم العلاقات الدولية مساعدتنا في بعض الاستخلاصات الهامة حول أزمتي اليونان وإيران؟

1- بالرغم من الظاهر الخادع فإن الأزمتين معقدتان، فعدم التحكم في أزمة اليونان، لا يؤدي فقط إلى إفلاس هذا البلد، ومن ثم إمكانية حدوث ثورة جياع ولاجئين في أوروبا نفسها، ولكنه قد يؤدي أيضاً إلى انهيار عملة اليورو وفشل تجربة الاتحاد الأوروبي التي يتم اقتباسها عادة كأفضل وأنجح تجربة في التكامل الإقليمي.. أما بالنسبة لإيران فإن إنتاجها أسلحة نووية هو شبه رخصة لبقية دول المنطقة في إنتاج أسلحتها النووية في إقليم يزداد فيه نفوذ الفاعلين غير الدول، من الحوثيين إلى «داعش» و«القاعدة»، أي أن السيولة المفرطة والعنف المتزايد في المنطقة قد يتسلحان بأسلحة نووية.

2- لم تنته الأزمتان بإبرام اتفاق اليونان مع منطقة اليورو أو طهران مع مجموعة (5 +1)، وهنا نحتاج إلى تقديم وتطبيق مفهوم جديد في معالجة الأزمات الدولية، تماماً كما فعلنا بالنسبة لإحلال مفهوم الردع النووي بدلاً من مفهوم ميزان القوى بين الدول الكبرى، بالنسبة لبعض الأزمات المعقدة يجب التخلي عن مفهوم «حل الأزمة» والعمل على أساس استئناس الأزمة، فالأزمة مثل الحيوان المتوحش، إذا لم يتم التحكم فيه أشاع في الأرض هلاكاً. ولنفكر في الفرق بين القطط والكلاب التي نستأنسها في منازلنا، مقارنة بمثيلاتها الضالة والضارية في الشوارع والصحاري أو سلالاتها من القطط المتوحشة والنمور والذئاب. استئناس الأزمة سيؤدي إلى التحكم فيها وربما الاقتراب أكثر من حلها.

كل من اتفاقي اليونان وإيران هو بداية طريق صعب، لكن بديله أسوأ بكثير، ولضيق المساحة سنركز هنا على إيران، فالمشكلة مع إيران لا يجب اختزالها في الأسلحة النووية، بل الأهم هو ما وراء ذلك: ما تحاول أن تمثله إيران ثم دورها في المنطقة: من الخليج إلى إقليم الشرق الأوسط ككل. فمثلاً، هل يقع القرار الأساسي في أيدي ممثلي الحرس الثوري وغيره من المتشددين، حيث تنظر طهران إلى نفسها باعتبارها أيقونة الإسلام الثوري الهادر الواجب تصديره؟ وهل هي دولة توسعية لا تحترم حدود غيرها ولا تقيم وزناً للمعاهدات والتحكيمات الدولية؟

استئناس الأزمة هو إذن الخطوة الأولى لمواجهة هذه التحديات الأساسية، بدءاً من الجدية في تفسير البنود عبر الالتزام الكامل بها، أي الاستئناس بدلا من الوحشية.