كمال بالهادي

أن تصعد الطائرات التركية لتقصف ما يعرف بتنظيم «داعش»، في العراق وسوريا، فذلك مؤشر عن تحولات جديدة ستشهدها المنطقة من هذا التنظيم الإرهابي الذي مازال يفتك بأمن المواطنين في أنحاء العالم. التحول التركي لافت، وهو يعبّر عن مخاض عسير تعيشه تركيا خاصة بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة وبعد الاتفاق بين إيران والمجموعة الدولية على برنامجها النووي.

تركيا تبحث لها عن موقع جديد في الساحة الدولية، بعد أن ظهرت في سماء المنطقة معطيات جديدة قد تحرم أنقرة من أن تكون هي اللاعب الرئيسي الأول فيها. ورجب طيب أردوغان قد نراه في الفترة القادمة، زعيماً عالمياً يحارب الإرهاب، بعد سنوات من الصمت عليه، إن لم نقل بعد سنوات من التورط فيه.

خيارات الرئيس التركي الحاكم الفعلي للبلاد، أثبتت أنها غير قادرة على الاستمرار في جلب التأييد لحزب العدالة والتنمية، الذراع السياسية لتنظيم الإخوان المسلمين في تركيا، والانتخابات الأخيرة أثبتت أن تحقيق نمو اقتصادي ليس هو الحل السحري الذي يجعل الناس يرضون عن سياسات حكوماتهم. فهناك استحقاقات سياسية يبدو أن حكومة فريق أردوغان قد عجزت عن الإيفاء بها عندما اختارت أن تكون عنصراً «مدمّراً» من خلال دعمها للإخوان المسلمين، وعندما اختارت الاصطفاف إلى جانب تنظيمات لم يكن بإمكانها أن تغير شيئاً على الأرض في منطقة الشرق الأوسط سوى أن تكون أدوات تخريبية، وهو أمر بات المجتمع التركي على يقين بأن حكومة حزب العدالة والتنمية هي المسؤولة عنه بدرجات كبرى، وهي تقود بلدهم إلى حتفه إذا ما استمرت في الخيارات القديمة.

حالة من التيه تعيشها حكومة أحمد داود أوغلو، فمن كانت تساندهم في ضرب سوريا والعراق، ارتدوا عليها، وهم يتوعّدون ب«فتح إسطنبول»، بعد أن مكنتهم من كل أسباب القوة والدمار. لا يمكن للحكومة التركية أن تبرّئ نفسها من الدمار الذي لحق بسوريا، ولا يمكن لها أن تتنصل مما ارتكبته في حق شعب مجاور، وربما في حق شعوب أخرى تضررت من إرهاب الدواعش. الحكومة التركية ربما ترغب في أن ترسل رسالة إلى الداخل التركي فحواها أنّها تلقت رسالة الانتخابات وهي ماضية في قطع صلة الرحم مع التنظيم الذي استفادت منه خاصة في تهريب البترول، بل إنها تتعهد بأن الضربات الجوية التي نفذها سلاح الجو التركي ليست سوى بداية، لعمليات أكبر، وهي من خلال هذا الرد السريع، تريد قطع الطريق أمام المعارضة العلمانية التي بدأت تستعيد سيطرتها على الرأي العام التركي.&

لكن الاتفاق الذي تم الكشف عنه بين أنقرة والولايات المتحدة، يبرهن على أن تركيا العضو في حلف الناتو لم تعد مستعدة للتغريد خارج السرب، بوقوفها في نهج الحياد السلبي. بل إنها مستعدة لقلب ظهر المجنّ كما يقال من أجل إرضاء البيت الأبيض، ومن أجل عدم السقوط من معادلات أمريكا الجديدة التي يقع رسمها والتخطيط لها فيما يسمى الشرق الأوسط الجديد. فالولايات المتحدة عقدت اتفاقاً تاريخياً مع إيران، يسمح باحتواء برنامجها النووي، وبإعادة طهران تدريجياً ضمن الخريطة الاقتصادية والسياسية الدولية. ورأينا تهافتاً غربياً لافتاً على زيارة طهران، في وقت مازال حبر الاتفاق لم يجف بعد. وبعد هذا الاتفاق أعلن البيت الأبيض عن أن «إسرائيل»، هي الركن الأساسي في كل معادلات الشرق الأوسط، فأين تركيا من كل هذا؟ الحقيقة أن أنقرة تشعر وكأنها خارج هذه المعادلات، لذلك قد نراها في المستقبل القريب هي الأداة التي سيقع القضاء بها على «داعش». فالمؤكّد أن تركيا تملك من المعلومات عن هذه التنظيمات ما لا أحد من دول التحالف الدولي يملكها، فهي التي دعمت «داعش» و«النصرة» بالسلاح والأموال وهي التي تضخ إلى أرض سوريا والعراق الآلاف من الإرهابيين، أو من كانت تسميهم إلى الأمس القريب «مجاهدين وثواراً».

تدرك أنقرة أن ما راهنت عليه منذ 2011، لم يؤت النتيجة التي كانت ترغب فيها، فتنظيم الإخوان المسلمين لم يستطع أن يكتسح الدول العربية ليصبح هو الطرف السياسي الأول الذي يتحكم في كل خيوط اللعبة. كما أن حلم أردوغان الشخصي بسقوط بشار الأسد، لم يحصل أيضاً رغم كل الخراب الذي لحق بسوريا. وهناك عدد من الدول التي كانت تدعم ما يحدث في سوريا، تتراجع الآن عن مواقفها، وتغيّر تكتيكاتها، من خلال السعي إلى إعادة ربط العلاقات مع النظام السوري. ومع كل هذه المعطيات المتغيّرة ظلت أنقرة هي الوحيدة التي تتغاضى عن التحولات إلى أن جاءتها صفعة الانتخابات، ثم تبعتها صفعة الاتفاق النووي مع إيران. والأكيد أن حديث روسيا عن تغييرات في مشهد في الشرق الأوسط واستعداد أنظمة عربية للتعاون مع موسكو من أجل محاربة التنظيمات الإرهابية، يعني أن أنقرة ستجد نفسها معزولة عن كل عناصر المشهد المحلي والإقليمي والدولي.&

تركيا تورطت في دعم «داعش»، وهذا لم يعد خافياً على أحد. وهي بخياراتها القديمة أذت شعوباً وقبائل. وحرصها على أن تكون في صدارة مشهد الشرق الأوسط سيدفعها إلى الانخراط في لعبة دولية ربما تكون أكثر قذارة وأكثر إيذاءً مما ارتكب إلى حد الآن. إن كان الجميع يعتبر أن هناك مخططاً صار واضحاً لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وتفتيته على أسس طائفية أو عرقية، فإن تركيا ستكون شاهدة على هذه الجريمة الدولية ضد الوطن العربي كما كانت تركيا أتاتورك، شاهدة على اتفاقات سايكس بيكو سيئة الذكر. تركيا تبحث لها عن موقع، ومن أجل ذلك مستعدة لأن تلعب أي دور، حتى وإن كان في الصف العاشر.