حازم صاغية

منذ قيام النظام البعثي في سوريا عام 1963، وخصوصاً منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة في 1970، صودرت الحياة العامة وأُلحقت إلحاقاً تاماً بالأخطبوط السلطوي. لكنّ مساحتين وحيدتين تُركتا نسبياً خارج هذا الاحتكار:

- الدين، لاندراجه في المقدّس الذي لا تجرؤ السلطة على منعه أو حجبه.

- وقضية فلسطين بوصفها المتنفّس الذي يمكن للسلطة عبره تحويل النقاش إلى خارجها، وتصريف المكبوت التعبيري والنشاطي في وجهة غير مؤذية لها.

ومع هذا، بقي تحرير هاتين المساحتين مجرد تحرير نسبي: فلئن تُركت المساجد للمصلّين بوصفها نقطة التجمع الوحيدة المتاحة، فإن خطبة الجمعة بقيت من اختصاص السلطة، وكذلك تعيين رجال الدين وإقصاؤهم، من خلال وزارة الأوقاف.

أما في ما خص فلسطين وقضيتها، فقد طوَّر «البعث» طريقة عمادها المزايدة على منظمة التحرير الفلسطينية والطعن في ولائها لفلسطين. وتجسدت هذه الطريقة في أشكال شتى، منها اختراع منظّمات «فلسطينية» تابعة لدمشق، مثل «الصاعقة»، واستيعاب وتوظيف منظمات أخرى، مثل «الجبهة الشعبية -القيادة العامة»، لتكون رقيباً على منظمة التحرير، وتم اعتقال قادة فلسطينيين في عدادهم ياسر عرفات وجورج حبش لم تستطع السلطة البعثية أن تطوّعهم، وأخيراً، تولّت دمشق شق حركة «فتح» في 1983، وإنشاء «فتح الانتفاضة»، وسط حرب ضارية على منظمة التحرير. وهذا كله قبل استخدام «حركة أمل» اللبنانية كي تشن على الفلسطينيين «حرب المخيمات» في منتصف الثمانينيات وأواخرها.

لكنْ حين اندلعت الثورة السورية في مارس 2011، لم تُذكر فلسطين في أدبيات المنتفضين وشعاراتهم، لسببين على الأقل: فمن جهة، كان النظام وعلى مدى عقود قد احترف توظيف الصراع مع إسرائيل بحيث استهلكها، وهو ما فعله حلفاؤه الإيرانيون والممانعون. أما من جهة أخرى، متصلة، فاستطاع النظام أن يجعل تلك القضية حجته، الضمنية أو المعلنة، في حجب سوريا وقضاياها الملحة. وهكذا بدا أن واحداً من أهم معاني الثورة هو استرداد القضية السورية من مصادرتها باسم فلسطين.

أمّا مع الإسلام فاختلفت القضية. صحيح أن انطلاق الثورة من المساجد كان مفهوماً، تبعاً لكونها المكان الوحيد المتاح للتجمع، ما جعل ناشطين معارضين من غير المسلمين أو من غير السنّة يقصدون الجامع ليُشهروا انضمامهم إلى الثورة. لكن الصحيح أيضاً أن ظاهرات مقلقة بدأت مبكراً تطلّ برأسها، كتسمية أيام الجُمع، حيث عادت حصة الأسد فيها لرموز من التاريخ الإسلامي مما يصعب تنسيبه إلى الوطنية السورية. وربما تغذت هذه الوجهة على فكرة العداوة مع أطراف أهلية وإقليمية كإيران موضوعة في الخانة المقابلة لخانة الإسلام السني، فضلاً عن شعور بالظلامة هو أقوى ما يكون عند السنّة السوريين، بل عند سنّة المشرق الذين هالتهم تغيرات العراق بعد 2003.

ثم كان القمع الوحشي الذي أدى إلى تراجع مدنية الثورة لمصلحة عسكرتها، مع ترجيحٍ لكفة داعميها بسياساتهم وثقافاتهم. وأضعف اعتقالُ النشطاء المدنيين وهجرتهم القوى الأكثر تقدماً في الثورة. وأخيراً، جاء إطلاق النظام سراح المعتقلين الإسلاميين ليعزز الوجهة هذه.

وبالتدريج، وباستثناء المقاتلين الأكراد وجيوب «الجيش الحر»، صارت القوى الفاعلة إسلامية على نحو أو آخر، فاستوردت الثورة بعض ما عُرف به النظام من خلط بين السيادة والشرعية. فهو أسّس شرعيّته على اعتبارات أيديولوجيّة لا صلة لها بمقوّمات السيادة الوطنيّة. وللأسف غدا الفصام بين تصور السيادة هذه، وتصور الشرعية كشيء مستقى من السماء، أهمّ سمات الجماعات المسلحة في سوريا اليوم.