محمد السعيد إدريس

في محاولة منه لضبط مسلسل التنازلات التي يقدمها وفد التفاوض الإيراني مع وفود تفاوض «مجموعة دول 5+1» في كل من جنيف وبعدها فيينا حول برنامج إيران النووي ومستقبله حرص حسين شريعتمداري رئيس تحرير صحيفة «جمهوري إسلامي» المتشددة والرجل القريب من المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي على نشر مقال في صحيفة «كيهان» (25-5-2015) استهله بمقدمة تلخص كل ما يود أن يطرحه من ملاحظات على أداء فريق التفاوض الإيراني وتأثير هذا الأداء على مستقبل مشروع إيران النووي قال فيها: «حين ترجل الكاتب البريطاني الساخر برنارد شو من سلم السفينة التي رست بميناء نيويورك في زيارته الأولى، وربما الوحيدة، للولايات المتحدة الأميركية انجذبت أنظاره نحو تمثال الحرية فسأل مضيفه الأميركي الذي كان في استقباله: تمثال من هذا؟ فأجابه: إنها مجسمة الحرية. وإذ أخذ المضيف يستطرد موضحاً، قاطعه برنارد شو قائلاً: لك جزيل الشكر، لا حاجة لتشرح فهذه سُنّة اعتادت الشعوب عليها، ففي بريطانيا مثلاً ودول أخرى بمجرد أن يرحل عن الحياة شخص مرموق أو عزيز يكرمه الناس بوضع تمثاله في مركز إحدى المدن لتبقى ذكراه حيّة في الأذهان، إن كانت يوماً ما شخصية فذة بين ظهرانيهم، وإن غادرت ربوعهم فهم يفتخرون بالماضي الذي قضته تلك الشخصية بينهم، وبالطبع هم يكتفون بالفخر».

الرسالة التي أراد حسين شريعتمداري توصيلها هي خشيته من أن يؤدي مسلسل التنازلات الإيراني إلى تفريغ المشروع النووي الإيراني من مضمونه وألا يبقى منه إلا تلك المنشآت خاوية المضمون كذكرى لعزيز رحل، على غرار المغزى الذي أراد برنارد شو توصيله عن تمثال الحرية الأميركي باعتباره تمثالا لشيء لم يعد له وجود أو شيء رحل.

مثل هذه التخوفات كانت بمثابة إنذار مبكر من أن يمتد مسلسل تنازلات «اتفاق لوزان» إلى الاتفاق النهائي الذي كان يجري التفاوض عليه، وبالذات بعد إعلان عباس عراقجي كبير المفاوضين الإيرانيين الموافقة على قبول البروتوكول الإضافي الذي يسمح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتفتيش «المباغت» على أي من المنشآت النووية الإيرانية ضمن مطالب «مجموعة 5+1»، وبعد مطالبة الوفد الأميركي بأن يشمل التفتيش المنشآت العسكرية الإيرانية وبالذات منشآت صناعة الصواريخ الباليستية الإيرانية باعتبار أن هذه الصواريخ، من المنظور الأميركي «لها إمكانية حمل رؤوس نووية».

هذه التخوفات كانت بدايات لانقسامات أو على الأقل خلافات، متوقعة حول بنود الاتفاق النهائي الذي سيتم التوصل إليه، والآن وبعد توقيع الوفود على الاتفاق يوم 14 يوليو/ تموز الماضي، وصدور قرار من مجلس الأمن الدولي يوم 20 من الشهر نفسه يحمل رقم 2231 فإن الخلافات يمكن أن تتحول إلى مواقف وانقسامات سياسية داخلية وبالذات بين تيار الأصوليين المتشددين مدعومين من الحرس الثوري وبين الرئيس حسن روحاني وحكومته وتيار الإصلاحيين الذين يعتبرون هذا الاتفاق إنجازهم وانتصارهم. وستكون محصلة المعركة التي بدأت تتفجر بين الفريقين هي العامل الحاسم في تحديد إلى أين تتجه إيران: إلى التشدد والانكفاء على مشروع الجمهورية الإسلامية والتوجه نحو الصدام مع الجوار الإقليمي وتأصيل العداء مع الولايات المتحدة والتمسك بشعار «الموت لأميركا.. الموت لإسرائيل» أم الانفتاح على الغرب والشرق معاً، والدخول في مشروعات مشتركة لتطوير إيران من الداخل اقتصادياً، ما يعني كسب الرهان على الشعب الإيراني الذي بات تواقاً لعهد جديد من الانفتاح والرخاء، وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من تأثيرات مهمة في سياسات إيران الإقليمية وبالذات العلاقة مع الجوار الإقليمي العربي والتركي على وجه التحديد للوصول إلى حلول للأزمات الإقليمية الساخنة والتي لإيران دور أساسي فيها.

حسم هذا الصراع يتوقف بالأساس على موقف المرشد الأعلى للثورة الإسلامية الذي يبدو أنه حريص على ألا يبدي سعادته بالاتفاق حرصاً على تماسك كتلة الأصوليين المتشددين وولائهم المطلق له، وفي محاولة لإعادة تأكيد أن إيران كان من حقها أن تحصل على اتفاق أفضل من هذا الاتفاق وأنها هي من قدم التنازلات بإرادتها وأن الغرب وبالذات الولايات المتحدة لم تتفضل على إيران بشيء، في إشارة إلى الكونغرس الأميركي المنقسم حول الاتفاق، لكنه في ذات الوقت حريص على تمرير الاتفاق بعد الحوار الساخن حوله في المؤسسات الدستورية وبالذات مجلس الشورى (البرلمان) ومجلس الأمن القومي الذي يرأسه علي شمخاني وزير الدفاع الأسبق.

وتأكيداً لهذا المنحى حرص المرشد الأعلى في خطبة عيد الفطر المبارك على تأكيد استمرار التصدي ل «الغطرسة» الأميركية في الشرق الأوسط مشيراً إلى أن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط تختلف «180 درجة» مع سياسات إيران، متعهداً باستمرار تحدي الغطرسة الأميركية ومواصلة دعم شعوب سوريا والعراق واليمن والبحرين وفلسطين ولبنان. وجاءت ملاحظات علي أكبر ولايتي كبير مستشاري خامنئي لتعطي المزيد من المؤشرات على وجود حرص في إيران على افتعال أزمة داخلية حول الاتفاق من بين تقاسم الأدوار بين مؤيد ومعارض هدفها ليس داخليا في إيران بل في عمق الولايات المتحدة لدفع الكونغرس الأميركي إلى تمرير الاتفاق وعدم إعاقته. فقد حرص ولايتي على أن يؤكد أن الاتفاق النووي «لا يخلو من الأخطاء» لكنه لم يرفضه بشكل قاطع واكتفى بالقول: «لا أحد يمكنه أن يحدد لنا أي الأسلحة نمتلك.. وباستثناء الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل ستواصل إيران صنع كل أنواع الصواريخ والطائرات المقاتلة وأنظمة الدفاع المضادة للصواريخ والدبابات وغيرها من المعدات المدرعة التي نحتاجها».

تأكيدات ولايتي جاءت بالتوازي مع الخلافات الساخنة بين القيادات العسكرية وبالذات الحرس الثوري ووزارة الدفاع ووزارة الخارجية حول سماح الاتفاق بالتفتيش على مصانع الصواريخ الباليستية الإيرانية، فقد انتقد قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري الاتفاق النووي واصفاً إياه بأنه «تجاوز الخطوط الحمر» التي رسمها المرشد الأعلى، وقال إن «بعض أجزاء الاتفاق تجاوز بوضوح الخطوط الحمر خاصة في ما يتعلق بقدرات إيران العسكرية»، وزاد على ذلك القول عن الاتفاق «لن نقبله أبداً». وجاء رد الخارجية الإيرانية أن «طهران ملتزمة بعدم السعي لصنع السلاح الذري» وأنه بموجب نص القرار 2231 فإن «القدرات العسكرية خاصة صواريخ إيران الباليستية لها هدف وحيد دفاعي، وبما أن هذه التجهيزات لم تُعد لنقل أسلحة نووية فهي خارج حقل اختصاص قرار مجلس الأمن». في الوقت ذاته اعتبر عباس عراقجي كبير المفاوضين الإيرانيين أن قرار مجلس الأمن رقم 2231 «إنجاز غير مسبوق في تاريخ إيران» مشيراً إلى أن هذا القرار سيحظر فقط الصواريخ المصممة لحمل رأس حربي نووي وإيران لا تملك برنامج صواريخ نووية».

هذه الانقسامات وجدت لها أصداء داخل مجلس الشورى الإيراني بحضور وزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي حرص على أن يؤكد أن «معظم شروط إيران قد استوفيت بما في ذلك الخطوط الحمر التي حددها المرشد الأعلى». وأوضح أن إيران حققت مكاسب أكبر من الاتفاق النووي مقارنة بالغربيين موضحاً أن «ما كسبوه كان أمراً قائماً أساساً لأن إيران لم تسع أبداً إلى امتلاك السلاح النووي». رغم ذلك فإن هذه الانقسامات ليست المحدد الوحيد لمسار تطور الأحداث داخل إيران في المستقبل، فموقف الكونغرس من الاتفاق سيكون حاسماً، وإيران تراقب بهذا الخصوص مدى تمسك الرئيس الأميركي بموقفه المنحاز للاتفاق في مواجهة مدى قدرة «إسرائيل» على دفع الكونغرس لرفض الاتفاق وتجاوز مخطط الرئيس أوباما لاستخدام الفيتو على رفض الكونغرس للاتفاق.

هذا السجال الأميركي - «الإسرائيلي» سيبقى عامل حسم كبيراً حول تداعيات الاتفاق على الداخل الإيراني، لكنه ليس المحدد الوحيد في ظل التسابق الألماني- الفرنسي على كسب السوق الإيرانية ناهيك عن طموحات روسيا والصين وتركيا، وهو تسابق يداعب شوق المواطن الإيراني على تجاوز الأزمات الاقتصادية- الاجتماعية الخانقة الناتجة عن العقوبات الاقتصادية الدولية التي فرضت على إيران، وهو الشوق الذي سوف يحسم تصويت الإيرانيين أوائل العام المقبل في انتخابات حاسمة سوف تحدد مستقبل إيران.