عزت الصافي: أخذت إيران مكان إسرائيل في الاستشعار العربي بالخطر على الأمن القومي، وعلى سلامة كيانات الدول التي لا تزال قائمة ومتماسكة بما لها من جيوش وأسلحة، ومن إمكانات وضمانات.

وحتى زمن طويل الأمد، لن تُستعاد المدن التي تهدّمت والقوى التي تبعثرت في الكيانات التي تتهاوى، ولن تتأمّن السبل والفرص لعودة ملايين الهاربين إلى الخارج العربي والدول المجاورة، كما سائر الدول الأجنبية التي اقتحم المغامرون حدودها، أو تسلّلوا إليها عبر أمواج البحار، تاركين وراءهم في طيات اليم مئات الأطفال والعجزة والمرضى. وكم كانت تلك الدول، ولا تزال، كريمة، ومتسامحة، وقد آوت قوافل البؤساء العرب، كما آوت سواهم من قبل، مندفعة بمشاعر الرحمة والإنسانية التي افتقدها هؤلاء في بلادهم تحت حكم البطش والظلم والإرهاب والتكفير.

أما الشهداء والضحايا الذين ضاقت بأعدادهم وأسمائهم بيانات الإحصاء. وأما الجرحى والمفقودون، والمشرّدون في عراء الصقيع والحر والجوع والعطش، فهؤلاء هم الشهود على زمنين: زمن القمع والقتل والاضطهاد والإذلال، وزمن التيه في البحث عن مأوى، ولقمة عيش، وحبة دواء لمئات الألوف من الضحايا المكتومين.

لا يوازي فظائع هذه النتائج سوى اشتعال مهرجانات الفرح والغبطة والعز في بلاد الثورة الإيرانية التي احتفلت بعيدها السادس والثلاثين بتقديمها صورة «مفتاح» العالم الديموقراطي المدني إلى شعبها المحروم من نعمة الحرية، ومن عدالة العيش على أرض تنبع خيرات لتصب في مجاري التسلُّح، ثم تُنفق على إعداد المقاتلين للانتشار في بلاد الآخرين، مع السيطرة على قرارها والتحكم بإرادة شعوبها.

وحدها الدول العربية، من مشرقها إلى مغربها، دفعت مسبقاً ضريبة ذلك الاتفاق، بدءاً من العام 2010، وهي مستمرة منذ خمس سنوات في دفع الأقساط المستحقة عليها، دماء وانهيارات في كياناتها ومؤسساتها ومقومات وجودها. وفي هذا الوقت يجلس لاعب الشطرنج الإيراني منفرداً إلى لوحة مفتوحة أمامه. وهو يصفّ البيادق بحسب ترتيبها التاريخي، ووفق القاعدة المعتمدة للعبة التي قوامها الذكاء، والمراوغة والصبر.

«جيش أسود» و «جيش أبيض» يتواجهان، ولكل منهما قائد يتربّص بتحركات الجيش الخصم. ولأن كلاًّ من القائدين مصمم على إحراز النصر على الآخر فلا بد من اشتباك، وقد تستمر المعركة زمناً غير محدد، لكن لا بد من نصر أو هزيمة في النهاية.

كان المتفرّجون الافتراضيون يتابعون اللعبة ويركّزون أنظارهم وانتباههم على لوحة المعركة. يراقبون الهجوم والدفاع، والالتفاف على الهدف. وتستمر الأنظار مشدودة إلى حركة الكرّ والفرّ، فيما «القتلى» يتساقطون في وسط الميدان وعلى جوانبه.

«الجنود» دائماً هم الضحايا، ولا بدّ أن يسقط الجميع إلا واحداً منهم، وهو أحد القائدَين، الأسود، أو الأبيض، ليكون «الملك». وقد ربح المعركة الأولى «الملك الأسود» الشهير بأنه صانع السجّاد، قطبة قطبة، ونقطة نقطة، فسجّل اسمه في أسفل قائمة أعضاء النادي النووي.

ولقد لعب البعض من الزملاء الصحافيين العرب على وتر الأغنية الشهيرة لأسمهان «ليالي الأنس في فيينّا». والحقيقة أنها كانت فعلاً ليالي أنس بين الوفدين الأميركي والإيراني، وكانت الوفود الأخرى المشاركة في المفاوضات النووية مجرد هيئة شهود على توقيع وثيقة الاتفاق التاريخي. فلا روسيا ولا الصين، ولا فرنسا ولا بريطانيا، ولا ألمانيا، كانت تضع في حسابها عرقلة الاتفاق. بل كانت ولا تزال تتهيّأ لفتح حساب مع الدولة الإيرانية التي ستخرج من المعركة بنحو مئة وخمسين بليون دولار.

كل عقول الدول تتطلع الآن نحو طهران حيث تتراءى لها كدسات مشاريع إنشائية وصناعية وتقنية وعسكرية يسيل لها لعاب الشركات العظمى التي ليس لها عقيدة ولا مبدأ، ولا هدف، إلا أن تحصل على أكبر قطعة ممكنة من «الكعكة» الفارسية.

وإذا كانت إسرائيل في الجانب المحروم من هذه الكعكة، إلا أن حصتها ستكون مضمونة بعدد من الخبراء والفنيين الذين سوف تضمهم أطقم الشركات الغربية، ولا مشكلة إن اكتشفتهم الاستخبارات الإيرانية، فما بين إسرائيل وإيران علاقات تعود إلى السنوات الأولى من الثورة، والدليل الثابت في صفقة الصواريخ الإسرائيلية لإيران، وكانت قد حملت اسم «صفقة إيران غيت عام 1986».

ثم إن إيران الثورة منذ بداياتها تتطلّع نحو الغرب، وطموحها أن تسترد زمن الشاه المخلوع مع ما كان فيه من نمو صناعي، واقتصادي، وعلمي، فضلاً عن علاقات تبادل تجاري، وحرية سفر، وإقامة، واستثمار، وبعثات إلى أرقى الجامعات والمعاهد في الغرب الأميركي والأوروبي. فخلال ست وثلاثين سنة من ثورتها خسرت إيران أعداداً كبيرة من علمائها في مختلف الاختصاصات عالية الرتب. ومعظم هؤلاء فضّلوا البقاء في غربتهم، وليس الخبراء الإيرانيون الذين يديرون الصناعة النووية في بلادهم إلا من هؤلاء، وقد عاد بعضهم، واستمر آخرون في التعاون من بُعد.

وإلى هؤلاء هناك أساتذة مميّزون في الطب والهندسة والفنون، والعلوم والإعلام والسينما والتلفزيون والمسرح والصناعة والزراعة. ذلك أن الإيراني موصوف بالحرص الشديد على هويته القومية، بقطع النظر عن طبيعة النظام الحاكم.

استناداً إلى هذه الثوابت في طبيعة الشعب الصفوي الأصل تصحّ معلومات كثيرة عن وجود «لوبي» إيراني في الولايات المتحدة الأميركية كان له دور فعال في التأثير على مواقف بعض الوفود في جولات المفاوضات التي سبقت توقيع اتفاق فيينا.

ولعل الملاحظة التي برزت في مجمل التصريحات الصادرة من طهران وفيينا قبل توقيع الاتفاق وبعده، هي أن إسرائيل غابت كلياً عن الحدث. وإذا كان نتانياهو يصعّد وتيرة حملته على باراك أوباما فإنه بالنتيجة يؤدي خدمة سياسية ومعنوية غير مباشرة للوفد الإيراني الذي خاض المرحلة الأخيرة من المفاوضات. بل إن نتانياهو يتيح لإيران فرصة رفع صوتها أعلى فأعلى معتزّة بالنصر على دول «الغطرسة والاستكبار».

لكن حملة نتانياهو على إيران تتوقّف عند حدود تهديد نظامها. فإسرائيل حريصة على بقاء هذا النظام، بل هي شريكة الإدارة الأميركية التي أطاحت عرش الشاه ونظامه عام 1979. ويمكن أي متابع للأحداث الإقليمية التي جرت خلال العقود الثلاثة الماضية أن يتأكد من أن إيران كانت، ولا تزال، مصدر قلق لجيرانها العرب. هذا من دون إغفال الدور الإسرائيلي المدمّر في سورية ولبنان، ومصر أيضاً. بل إن العدوان الإسرائيلي هو السبب الأول الذي وفّر الكثير من الذرائع لاستشراس أنظمة عسكرية عربية واستمرارها.

والآن تتذرّع إسرائيل بالخطر عليها من إيران وتمضي في تعزيز ترسانتها النووية والميدانية، وتحصل على ما تطلب من الولايات المتحدة؛ وفي المقابل ترفع إيران لافتة العداء لإسرائيل، وتغدق الأموال والأسلحة على من يفتح أمامها أبواب الدخول العسكري إلى بلاده.

وفي حين تمضي الدول العربية في حروبها «المدبّرة» نحو المصير المجهول، تنظم الثورة الإيرانية إدارتها فتشطرها جبهتين: جبهة الحكومة التي تولّت مسؤولية المفاوضات مع الدول الكبرى وصولاً إلى الاتفاق، وجبهة «الحرس الثوري» الذي يُعلن اعتراضه على النقاط التي تلحظ شروطاً توقف إيران عند حدّ إنتاج قنبلة نووية. ثم يذهب «الحرس» إلى التهديد بإسقاط الاتفاق. ومع ذلك تمضي الدول الكبرى الديموقراطية في إجراءاتها القانونية والدستورية للحصول على تفويض بإبرام الاتفاق.

وهذا يعني أن إيران سوف تنضبط بحدود ما حصلت عليه من الاتفاق النووي. لكن من يضبط انفلاتها في العالم العربي؟

ولعل السؤال الأصعب الذي لا جواب واضحاً عنه، حتى اليوم، هو: إلى متى سوف تستمر عملية ابتزاز العرب، أنظمة، وحكّاماً، وجيوشاً، وشعوباً، تحت شعار: مواجهة إسرائيل؟