بيروت - الرأي: ثمّة تدافع خشن في لبنان بين مظاهر متناقضة الى حد الغرابة، وكأنك أمام «لبنانيْن» مختلفيْن لا يتشابهان بشيء.

أما الأول فهو لبنان الـ 100 مهرجان أضواء وفرح وطرب ولهو وفن ورقص، ففي إحصاء لوزارة السياحة تكاد لا تخلو مدينة أو قرية من مهرجان، في «هروب جماعي» إلى مظاهر الفرح عبر احتفاليات يرقى بعضها الى العالمية، فهذا الـ «لبنان» كان على موعد مع ميراي ماتيو وشارل أزنافور وسواهما من فناني «الخمس نجوم».

وأما الثاني فهو لبنان النفايات المتروكة في العراء، المعارك السياسية بالسلاح الابيض، الجرائم الفردية في وضح النهار، المآزق الدستورية المفتوحة على غاربها، الأفول السياحي الذي لا سابق له، الشح الاقتصادي المتعاظم، التقنين الكهربائي القاسي، وانسداد الأفق وكأنك ترقص احتضاراً في فم الكابوس.

هكذا هو لبنان بوجهيْه، الذي احتفل أمس، بالعيد السبعين للجيش، منكّساً سيوفه للسنة الثانية على التوالي، نتيجة تغييب رئيس الجمهورية الذي استبدلته المعادلات الإقليمية بـ «فخامة الفراغ» منذ نحو عام وثلاثة أشهر، وهي المدة التي كانت كافية لاستيلاد أزمات ومآزق وتحديات جعلت الدولة معلّقة ووضعت الجمهورية أمام المجهول واستحضرت مخاوف على الكيان والصيغة والنظام.

لم يبق لحماية لبنان من المنزلقات الخطرة سوى حكومة هشة تدير البلاد بحد أدنى من التفاهمات الداخلية والخارجية ،التي أتت بها لملء الشغور الرئاسي وحفْظ الاستقرار الأمني وضبط إيقاع حركة النزوح المليوني من سورية الى لبنان، وهو ما يفسّر الهبّة الداخلية والخارجية التي سارعت الى إقناع رئيس الحكومة الرئاسية تمام سلام بالعدول عن تهديده بالاستقالة بعدما ضاق ذرعاً بتعطيل عمل الحكومة التي يقودها «التيار الوطني الحر» بزعامة ميشال عون، مدعوماً بتأييد اضطراري من حليفه «حزب الله».

يجلس تمام بيك في ديوانيته في الطبقة السفلى من بيته العتيق في المصيطبة متكئاً على موقف يشبه «السهل الممتنع» ويشرح لزواره بأنه كان سبّاقاً في الحرص على صوغ مقاربة توافقية لعمل حكومته بسبب الظروف الاستثنائية الناجمة عن الفراغ في سدّة الرئاسة الاولى، لكن هذا التوافق انقلب تعطيلاً عبر «فيتوات» تمارسها مكوّنات في الحكومة، ما ضرب إنتاجية مجلس الوزراء وشلّ قدرته على ادارة شؤون البلاد والعباد.

ربما قصَد سلام - الذي دعا الى جلسة لمجلس الوزراء الأربعاء المقبل - مِن ضرْبه على الطاولة عبر تلويحه بالاستقالة أن يحضّ الآخرين على ملاقاة سعيه الى إنقاذ الحكومة من «الموت السريري»، خصوصاً مع إدراك الجميع بأن الوقائع الاقليمية بعد الاتفاق النووي بين ايران والغرب تؤشر الى استبعاد الإفراج عن الانتخابات الرئاسية في وقت قريب.

اللافت في هذا السياق، كان الهجوم المعاكس الذي شنه «حزب الله» وبلغ حد تحذيره سلام من الاستقالة. وذكرت مصادر بارزة في قوى «8 آذار» لـ «الراي» في معرض تفسيرها لـ «نقزة» الحزب أنه «استشعر وجود محاولة إقليمية لرفع الغطاء عنه عبر كشف الواقع السياسي والأمني في لبنان بـ (تطيير الحكومة) التي يضطلع التيار السنّي الأبرز في البلاد، أي (تيار المستقبل) بدور مفصلي فيها عبر وزارات مثل الداخلية والعدل».

وفي تقدير هذه المصادر أن الحزب «يريد بقاء الحكومة ولو عاطلة عن العمل لأن استقالتها او إسقاطها سيفضي الى فلتان أمني، القصد منه في الدرجة الاولى إلهاء الحزب عن معركته الأهم في سورية والعراق وسواهما، وجعله وجهاً لوجه أمام وقائع جديدة في لبنان تضطره الى أخذ الأمور بيده».

ورغم أن أوساطا بارزة في «تيار المستقبل» أبلغت «الراي» أن «التلاعب بمصير الحكومة مردّه الى موقف العماد عون وحليفه (حزب الله)، فإنها رأت في الوقت عينه أن ما يجري يثبت أن بقاء الحكومة حاجة للجميع، وهي الرؤية التي استندت اليها أساساً عملية تشكيل الحكومة يوم لاحت في الأفق مؤشرات الفراغ الرئاسي، وتالياً على (حزب الله) الحد من جنوح حليفه لتعطيل الحكومة لا الوقوف خلفه».

وكان لافتاً في هذا الاطار، مسارعة الخارج كالمملكة العربية السعودية ومصر والولايات المتحدة الى التمنّي على سلام عدم المجازفة باللجوء الى الاستقالة ،لأن من شأن ذلك دفع المأزق السياسي - الدستوري نحو مستويات أكثر تعقيداً، وهو الأمر الذي يأخذه رئيس الحكومة بالحسبان، رغم كلامه في الجلسة الاخيرة لمجلس الوزراء ان الخيارات ستكون مفتوحة امامه، إذا اصطدم بحائط مسدود.

وفي تقدير دوائر مراقبة في بيروت، ان الواقع الحكومي يتجه الى «اللعب تحت سقف بقاء الحكومة لا رحيلها»، بمعنى أنه لن يكون مستغرباً اعتكاف الرئيس سلام أو تعليقه لجلسات مجلس الوزراء، كما أنه لن تكون مؤثّرة الحركة الاحتجاجية التي يلوح بها عون اعتراضاً على عدم الاستجابة لمطلبه بتعيين صهره العميد شامل روكز قائداً للجيش.

واللافت في هذا السياق أن «تلك الدوائر تتعاطى مع التمديد لرئيس الاركان الحالي اللواء وليد سليمان في السابع من هذا الشهر ولقائد الجيش العماد جان قهوجي في سبتمبر المقبل، وكأن ما كتب قد كتب بمعزل عن الصراخ السياسي لعون، الذي يحرص حليفه (حزب الله) على عدم المسّ ببقاء الحكومة ورسْم خط أحمر لمنع إسقاطها».

وهكذا استمر عون في رفع وتيرة خطابه عشية أسبوع مفصلي للحكومة التي ستواجه استحقاق التمديد لرئيس الاركان في الجيش، فاعتبر أن على الحكومة أن ترضخ للآلية المتفق عليها، مشيراً الى أن «الرئيس التوافقي يعني تقسيم لبنان إلى قطع جبنة»، داعياً الرئيس سعد الحريري الى مناظرة تلفزيونية.