عبد الله السناوي

أمام انقلابات إقليمية في حسابات القوة وقواعد الاشتباك تكاد تغيب أي سياسات على شيء من التماسك.

لا مراجعة جرت ولا حركة تبدت.

على مدى زمني قصير طرأ تحولان جوهريان على خرائط أكثر أقاليم العالم اشتعالاً بالنيران.

الأول: اتفاق الدول الست الكبرى مع إيران بشأن برنامجها النووي.

وهو اتفاق وقِّع لينفذ، والعدول عنه مستبعد بأي حسابات استراتيجية واقتصادية في أي مدى منظور.

لا تعني المشاحنات الدبلوماسية والإعلامية بين بعض أطرافه أن شيئاً سوف يتغير.

فالدول التي وقعته لها رهاناتها التي لا يمكن التخلي عنها بسهولة، ومجلس الأمن الدولي اعتمده.

كل ما يحدث أقرب إلى المناورات، لاكتساب مراكز أفضل في أي ترتيبات إقليمية مقبلة.

هناك نزعة غربية لتطويع طهران وفق مقتضيات مصالحها الاستراتيجية، تقابلها نزعة إيرانية لتثبيت أدوارها كأكبر قوة إقليمية لا يمكن الاستغناء عنها.

ما بين النزعتين تتداخل- على نحو مثير- المصالح الاقتصادية مع الاعتبارات الاستراتيجية، والرهان على إيران مع محاولات إرضاء الحلفاء الآخرين في المنطقة.

هذه حالة سيولة لا مثيل لها، وكل شيء سوف يوضع تحت الاختبار على الأرض.

الثاني: دخول تركيا على خط الاشتباكات المسلحة.

التطور نفسه يفضي إلى أوضاع سيولة مماثلة ورهانات تحت الاختبار.

باسم محاربة «داعش» أعلنت أنقرة تحركها العسكري، غير أن أغلب الغارات استهدفت مواقع حزب «العمال الكردستاني» في العراق بأكثر مما استهدفت تمركزات التنظيم المتطرف في سوريا.

بالقدر نفسه استهدفت حملات الاعتقال نشطاء أكراد بأكثر مما نالت من أنصار التنظيم الإرهابي.

هذا يزكي الاعتقاد العام أن الحملة العسكرية أسبابها داخلية قبل أن تكون إقليمية، في سعي لتعديل الأوضاع السياسية قبل أي انتخابات نيابية مبكرة.

إنه رهان على النار في تقليص الحضور السياسي الكردي الذي أفضى إلى خسارة حزب «العدالة والتنمية» أغلبيته البرلمانية.

بصيغة أخرى فهو محاولة لتعبئة الرأي العام التركي تحت ضغط مشاعر الخوف للتصويت بالأغلبية مرة أخرى للحزب الذي أسسه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بما يسمح له بتعديل نظام الحكم إلى الطبعة الرئاسية؛ ليمسك بمقاليد الدولة وحده.

هذه الألعاب الخطرة بالسلاح لها تداعيات من نفس المستوى في الإقليم كله.

تركيا وإيران لاعبان محوريان على خرائط المنطقة يضاهيان مصر التاريخية ذات المكانة من حيث الأهمية الاستراتيجية وأحجام السكان.

الاحتمالات كلها مفتوحة على أوضاع سيولة سياسية حول براكين النار، دون أن نرتفع إلى مستوى التحديات الداهمة أو نبني سياسة جديدة لها القدرة على التأثير في مجريات الحوادث.

بناء السياسة من بناء الهيبة.

إذا لم تكن قادراً على اكتشاف مواضع أقدامك والتصرف في الملفات الملغمة بثقة من يعرف أهدافه وطريقه فإن أحداً في العالم لن يعيرك اهتماماً كبيراً.

إذا لم تكن طرفاً فاعلاً في الاختبارات الكبرى فإنك موضوع لها.

أول الاختبارات وأهمها الأزمة السورية الدامية.

إيران تحاول تثبيت حلفائها، وتفتح في الوقت نفسه نافذة على التسوية السياسية.

وتركيا تراهن على «منطقة عازلة» داخل الحدود السورية، دون أن يكون لديها تصور من يدير هذه المنطقة.

والمبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا يتقدم لاختبار فرص التوصل إلى هيئة قيادية تتولى مسؤولية إدارة مرحلة انتقالية في سوريا وفق صيغة «جنيف ١» بعد توقيع اتفاق «فيينا» مع إيران.

اختبار أولي لا أخير، وحركة على رقعة شطرنج في إقليم يهوى ألعاب «الطاولة».

اللافت أن المبعوث الأممي يضع «داعش» و«جبهة النصرة» في تصنيف إرهابي واحد، بينما بعض الدول الإقليمية النافذة تدعم الثانية وتصفها ب«جماعات المعارضة المسلحة».

السؤال هنا: ما تعريفنا للإرهاب؟ وماذا نقصد بجماعاته؟

الارتباك في الإجابة ينسف موضوعيا أي احتمالات للتوافق على شيء من الاحترام.

وهذا ما يعترض الرئيس التركي بقسوة.

فهو يعلن الحرب على «داعش» دون أن يتخذ أي إجراءات جدية في مواجهته.

بعض التقديرات الرسمية تقول إن عدد مناصريه في حدود ثلاثة آلاف تركي.

وهو متهم من جهات دولية وإقليمية بالتورط في إمداده بالسلاح والرجال عبر حدود بلاده مع سوريا.

استخدام ورقة مكافحة الإرهاب لأسباب داخلية لعب بالنار سوف ينال من أمن واستقرار تركيا.

بهذا المعنى حذرت ألمانيا من هجمات محتملة على شبكة قطارات الأنفاق ومحطات الحافلات العامة.

إنه مشروع اضطراب داخلي يلوح فوق جبال الأناضول.

ورغم ما يدعيه أردوغان من قوة فإنه سوف يجد نفسه تحت رحمة مؤسسته العسكرية.

فأي دور أمني هو بالضرورة دور سياسي.

عندما يقول أردوغان إن مشروع السلام مع الأكراد مستحيل فهو يدخل في حرب شبه معلنة مع حسابات حلفائه الدوليين.

لا الاحتواء بالسلام متاح، ولا الحسم بالسلاح ممكن.

تركيا المأزومة تنذر بصفحة جديدة، وكل شيء تحت الاختبار العنيف.

بالمقابل تبدو إيران أكثر ثقة في نفسها.

تنسق مع التحالف الأمريكي في العراق بالقرب من حسم «معركة الرمادي»، وتضغط في الوقت نفسه لوضع حد لأي نزعات عسكرية تركية.

مثل تركيا لا تقبل بدولة كردية تهدد بنيتها الداخلية غير أنها أكثر تأنيا في التعاطي مع الملف الحساس.

الدولة الكردية شبه ممكنة سوريًا وعراقيًا، وشبه مستحيلة تركيًا وإيرانيًا.

الكلام في الخرائط يعني بالضبط أن كل شيء سوف يتقرر بقوة السلاح أو بصفقات السياسة وفق موازين القوى لا خارجها.

نحن تقريبا خارج كل حساب.

رغم أن الولايات المتحدة وفرت غطاءً سياسيا للإجراءات العسكرية التي أقدم عليها أردوغان، إلا أن من المرجح أن بطاقات حمراء سوف ترفع في وجهه.

فلكل لعبة قواعدها واحتمال الحماقات له حدود.

بالنسبة لإيران فهذه فرصة لا تعوض لإثبات قدرتها على الاضطلاع بدور الدولة الإقليمية الكبرى مع الحد الأدنى من الاحتقانات مع الشركاء الغربيين الجدد.

بتلخيصٍ ما إيران تتحسب لخطواتها وتركيا تغامر بمصائرها.

بحسب معلومات مؤكدة أبلغ علي خامنئي رجب طيب أردوغان بعد معركة «جسر الشغور» في سوريا: «تركيا تجاوزت كل الخطوط الحمر».

العبارة منقولة عن شخصية لبنانية رفيعة توحي بأن هناك خطوطاً حمراً أخرى من داخل الإقليم نفسه.

ليس ممكنا أن يكون هناك تدخل بري تركي في سوريا، فالعواقب وخيمة.

الأطراف الدولية كلها تترقب وتتحسب قبل أن تشرّع بطاقاتها الحمر.

في الوقت نفسه تستعد لصفقات محتملة وتقسيمات غير مستبعدة.

أين نحن من ذلك كله؟

هذا هو السؤال الذي يستحق إجابة مختلفة غير البيانات الرسمية المعتادة.