عمر عبد العزيز

يخطئ من يظن أن نظام الرئيس السابق في اليمن علي عبدالله صالح قد انتهى في عام 2011، والحقيقة أن ما جرى آنئذٍ كان قبولاً مخاتلاً من قبل نظام صالح بالمبادرة الخليجية التي جاءت أصلاً وأساساً لإنقاذ اليمن من حرب أهلية مدمرة، وتوافقَ على مرئياتها فرقاء الداخل بطيوف ألوانهم، ورعت استتباعاتها الباهظة دول مجلس التعاون الخليجي، وكان المجتمع الدولي حاضراً في أساس المفاعيل الإيجابية لتلك الرؤية. لكن صالح ونظامه الموروث من متاهات النهب والسلب والفوضى، لم يكونا قابلين بالمبادرة، ضاربين عرض الحائط بذلك الإنصاف الفريد الذي ترافق مع المبادرة الخليجية، مُتمثلاً في المشاركة الحكومية بالتناصف، والانتقال السلمي التوافقي لرئاسة الدولة، إضافة إلى الحصانة البرلمانية التي مُنحت لصالح، واستبعاد المساءلة القانونية له ومن معه عن تلك المبالغ المالية الهائلة المنهوبة من ميزانية الدولة ومواردها.

لم يكن صالح ولا هيئة أركانه مقتنعين بالمبادرة الخليجية، والشاهد على ذلك عودته الاستعراضية الأكروباتية من المملكة العربية السعودية، متخفياً في ليلة ليلاء، ليُباشر بعد ذلك عملاً تدميرياً منظماً ضد حكومة رئيس الوزراء محمد سالم باسندوة، بل وضد الشرعية الناجمة عن المبادرة الخليجية واستتباعاتها الحميدة.

تمثَّل العمل التخريبي المنظم ضد الدولة والمجتمع في سلسلة من الأفعال المشينة، وكان أبرزها الاعتداءات المتواصلة على أبراج الكهرباء، وإخراج المحطة الرئيسية الجديدة من الخدمة، وهي التي كانت توفر 4 آلاف ميغاوات من التيار الكهربائي، وتمثل الذراع الأكبر في تأمين ما لا يقل عن 7 آلاف ميغاوات لعموم الجمهورية. تكرار الاعتداء على أبراج الكهرباء، وإخراج محطة الخدمة الرئيسية عن العمل، كانت العقوبة الموجهة لعموم المواطنين، لأنهم خرجوا في تظاهرات مليونية عارمة ضد نظام صالح.

تالياً واستتباعاً، جاءت الاعتداءات على أنابيب النفط والغاز، لتلحق ضرراً كبيراً بالاقتصاد الريعي الأكثر أهمية في البلاد، وكان الهدف المرسوم نفسه، يتلخَّص في إفشال حكومة الوفاق الوطني، بالرغم من مشاركة حزب المؤتمر الشعبي بنصف الحقائب.

شنَّت جندرمة صالح هجوماً إعلامياً متواتراً على فرقاء الساحة من الباحثين عن التغيير، والرائين للمستقبل، وقد بدا ذلك الهجوم متعدد الحراب، ضرباً من الاستباحة الأخلاقية والكذب البواح، والمناورة المكشوفة على الحقائق الموضوعية.

وبالترافق مع الحملة الإعلامية المُتفلِّتة، سارعت فرق الموت المأجورة بمباشرة مئات الاغتيالات للقيادات العسكرية، وحكماء الساحة السياسية، والضباط، وصف الضباط، وصولاً إلى الطيارين المحترفين، وكان واضحاً أن مشروع الاغتيالات ضد أفراد القوات المسلحة والشرطة والأمن، يعيد إنتاج التقليد الإجرامي نفسه الذي تلا وحدة مايو بين شطري اليمن سابقاً، ذلك أن مطبخ الإجرام باشر منذ الأيام الأولى للوحدة، القيام باغتيالات سياسية ضد كوادر الحزب الاشتراكي اليمني، ومن يرون فيه قيمة مستقبلية تهدد النظام كما يتوهمون.

لقد كانت تلك الاغتيالات بمثابة اغتيال لحلم الوحدة النقية الصافية التي اقترنت بأفئدة وقلوب الناس في عموم الذاكرة الوطنية اليمنية. لكن نظام صالح لم يكتف بذلك، بل توَّج تدمير الحلم بحرب 1994م الظالمة، والتي فتحت الأبواب والنوافذ للنهب المنظم لدولة الجنوب السابقة على الوحدة، وجاءت الهجمة التترية الأخيرة على عدن ومدن الجنوب والوسط والتهائم، لتأكيد الخيار الأهوج نفسه الذي أجهز فيه صالح والحوثيون على ما تبقى من أمل يتَّسع للوحدة والتنوع.

سيناريو الاغتيالات المجرمة التي باشرها النظام بعد وحدة الشمال والجنوب يتكرر بعد عام 2011م، وبهذا الملمح الأخير تكتمل متوالية الجريمة الخارجة من غرف الظلم والظلام الداكنة، حيث يصبح المجتمع العاقل مستباحاً من قبل مرتزقة الدراجات النارية، ومن على شاكلتهم من الفئات الرثة التي تُدار من مافيا الغرف المظلمة.

في خضم هذا التخريب الأُفقي الشامل ظل رهان فرقاء الساحة السياسة العاقلة القبض على جمرة الاستحقاق، والذهاب في التطبيق العسير لمرئيات المبادرة الخليجية، والصبر على المكاره، وتأمين نجاح مؤتمر الحوار الوطني الشامل، والعمل على تطبيق مرئياته.. لكن هذا الجهد البنَّاء كان يترافق مع مشاركة جناح مؤتمري مخاتل، وحضور حوثي لا يقل مخاتلةً عن مشاركة المؤتمريين الموالين للرئيس السابق، وكان واضحاً منذ البدايات الأولى للعملية السياسية الجديدة أن الموالين لصالح أسرى للوهم.. خارجين من شرنقة العدمية السياسية المقرونة بالمنافع غير السويَّة، ولهذا السبب تجلَّت ظاهرة الانشقاقات المؤتمرية، لتواصل دربها خلال الفترة من عام 2011 وحتى يومنا هذا، فقد خسر المؤتمر الشعبي خيرة كوادره المُجرِّبة، وكوكبة من الأسماء السياسية والإعلامية والثقافية التي يُشار لها بالبنان.

خلال العام الماضي بدأت بوادر الانقلاب على الشرعية التوافقية، من خلال إطلاق العنان لعوام الميليشيات الحوثية، بالترافق كان صالح وهيئة أركانه يخططون لاحتلال المدن بقوة السلاح، وقد تم التمهيد لاحتلال العاصمة من قبل الحوثيين والصالحيين عبر معارك دماج، وصولاً إلى سقوط عمران.. التي كانت بمثابة الخاصرة الممهدة للعاصمة صنعاء.

بدت الإدارة السياسية للشرعية في عجز وارتباك ظاهرين، وكانت الاستيهامات السياسية مناسبة استثنائية استفاد منها صالح والحوثيون، وتجلَّى ظاهراً ذلك التحالف الميكيافيللي الذي قاد ثنائية علي عبدالله صالح وعبدالملك الحوثي، وسقطت صنعاء بيد الميليشيات القبائلية المسلحة، لتباشر تنفيذ مرئيات الانقلاب، وليصبح تمددها اللاحق بمساعدة فيالق الحرس الجمهوري والقوات الخاصة، سمة أساسية في تراجيديا الموت والدمار.

ليس لدى صالح والحوثي أي مشروع يُعتدُّ به، وليس بوسعهما إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء، ولا يمكنهما انتزاع اليمن من تاريخه وجغرافيته، ولن ينالا إجازة عربية واسلامية ودولية.

جاءت عاصفة الحزم ومتواليات استتباعاتها لإثبات أن التحالف العربي مع خيار العملية السياسية التي ابتدأت بالمبادرة الخليجية، وجاءت القرارت الأُممية الناجزة لتؤكد هذا المعنى، وأصبح صالح والحوثي في مرمى المقاومة الشعبية الضارية، والمناجزة العربية الصارمة.