مصطفى الفقي

يرتبط الدور الإقليمي صعودًا وهبوطًا بالأوضاع الداخلية للدولة خصوصاً في بعديها الاقتصادي والأمني، فالدور الإقليمي ليس «صكاً» تاريخياً مفتوحاً ولا هو «شيك على بياض»، إنه محصلة لأوضاع تتصل بالداخل ودول الجوار الجغرافي والظرف التاريخي الذي يمر به الإقليم عمومًا، وينطبق ذلك كله على مصر إذ لها مقومات ثابتة تتصل ببعدي الزمان والمكان أي الجغرافيا والتاريخ وهما بعدان ثابتان يستحيل المساس بهما، ولكن العوامل التابعة مثل الوضع الاقتصادي والاستقرار السياسي والازدهار الثقافي هي أيضًا عوامل أساسية تصاحب الدور الإقليمي وتدعمه، لذلك فإن ذلك الدور ليس معطاة زمنية تبدو وكأنها هبة إلهية فالأمر يختلف عن ذلك لأنه يخضع لحسابات القوة والضعف والموازين الاستراتيجية في المنطقة كلها، ولقد كثر الحديث عن الدور الإقليمي لمصر وحان الوقت لكي نضع بعض النقاط على حروفها ونستعرض ذلك من خلال الملاحظات التالية:

أولاً: مازالت الذاكرة الوطنية في مصر تحمل من المخاوف تجاه الدور الإقليمي بقدر ما تحمل من ذكريات عصور التوسع الخارجي للوجود المصري في المنطقة، فتجربة محمد علي أدت إلى تأليب أوروبا عليه ومحاصرة «الإمبراطورية المصرية» سياسياً حتى تمكن خصومه من تحجيم دوره وتقليص الدولة المصرية في حدودها التاريخية ب«اتفاقية لندن» 1840، وقد تعرضت «مصر الناصرية» لشيء من ذلك أيضاً إذ إن الغرب رأى في سياستها القومية توسعاً وانتشاراً في المنطقة للوجود المصري فكانت ضربة 1967 للإجهاز على المشروع القومي وتحجيم دور مصر مرة أخرى، كما مازالت الذاكرة المصرية تحتفظ بشيء من السلبية لذكريات «حرب اليمن» التي دخلها الجيش المصري في مطلع ستينات القرن الماضي استجابة لنداء «الثورة اليمنية» ومحاولة لتخليص شعب عربي شقيق من قبضة الجهل والاستبداد والتخلف ولكن كانت النتيجة استنزافاً للقوات المسلحة المصرية وللاقتصاد المصري أيضاً ومازالت تلك الحرب محل جدل حيث حاول بعض المفكرين والمؤرخين مقارنتها بالحملة الفرنسية على مصر، ولقد أصاب أستاذ الفلسفة الراحل د. فؤاد زكريا كبد الحقيقة عندما كتب مقاله الشهير «دهاء التاريخ» في مقارنة بين الحملة الفرنسية على مصر والحملة المصرية على اليمن، لذلك كله ظل الضمير المصري محتفظًا بالشكوك والمخاوف تجاه قضية الدور الإقليمي ودعاة الانتشار في المنطقة وتكريس التواصل مع شعوبها.&

ثانياً: إن الحديث عن مصر القوية في الداخل كنموذج للامتداد في الخارج أمر لا نختلف عليه ولكن لا نقف عنده، فالقضية برمتها أوسع من ذلك وأرحب لأن مصر ارتبطت دائمًا بظاهرة «الحضور الإقليمي» الذي جعل منها دولة مركزية محورية لها سيادتها القوية ومكانتها الرفيعة ودورها الذي لا يختفي، واللافت في الأمر أن دعاة العزلة المصرية والانكفاء على الذات بحجة التفرغ للبناء الداخلي لا يدركون العلاقة الوثيقة بين دور مصر الإقليمي وازدهارها الداخلي، فلقد علمنا التاريخ أن مصر دولة تقدم السياسة الرشيدة والقوة الناعمة بل وأحياناً القوة الخشنة أيضاً في مقابل دور إقليمي يأتي عائده في صورة اقتصاد نقدي وعيني وسياحي فضلاً عن الإبهار الذي مارسه النموذج المصري في مراحل مختلفة من تاريخ المنطقة، ويكفي أن نتذكر أن مصر هي التي علمت وطببت وشيدت وبقيت في ذاكرة الآخرين شقيقة كبرى يأتي منها الإشعاع الثقافي وهي تحتضن أبناء أمتها العربية وقارتها الإفريقية وعالمها الإسلامي في إحساس بالمسؤولية التاريخية وإدراك عميق لمفهوم الدور الخارجي لدولة عريقة مثل مصر.&

ثالثاً: اتصل بي ذات صباح من عام 2008 السفير المتميز نبيل فهمي الذي أصبح وزيراً للخارجية فيما بعد وقال لي: «اقرأ صحيفة (البديل) في عددها الصادر اليوم وستجد أن العنوان الرئيسى للصحيفة-بغض النظر عن تقييمنا له- سوف يجر عليك بعض المتاعب». فتلهفت لمعرفة العنوان فإذا هو أن كاتب هذه السطور يرى أن الرئيس الأسبق مبارك لا يهتم بالدور الإقليمي ما أدى إلى انكماش السياسة الخارجية المصرية في المنطقة، وكان عليَّ أن أبرر وأن أدافع أمام الاتصالات الواردة من مؤسسة الرئاسة احتجاجاً على ما جاء في الصحيفة وانتقاداً لما قلته في محاضرة عامة نقلت عنها تلك الصحيفة، وواقع الأمر أن الذين يرصدون الخطوط العريضة للسياسة الإقليمية المصرية قد لاحظوا أنه برحيل عبد الناصر انكمش الدور المصري إقليمياً وتراجعت مظاهر كثيرة له لدى دول مختلفة عربية وإفريقية وإسلامية، وبانتهاء عصر الرئيس السادات كانت القطيعة العربية شبه كاملة مع مصر لذلك اتصفت سنوات حكم الرئيس الأسبق مبارك بالحرص الشديد على تحجيم الحركة المصرية في المنطقة العربية من منطلق يؤمن بأن الاهتمام بالداخل سوف يصب بعد ذلك في قيمة الدولة بالخارج، كما أن الحذر الغريزي الذي تميز به الرئيس الأسبق مبارك جعله يبتعد عن التورط في أية مغامرات عسكرية أو مواقف حادة خشية النتائج السلبية لذلك على استقرار مصر وسلامتها، ولكن احتفظت القاهرة بعلاقات وثيقة مع دول الخليج العربي بلغت ذروتها عند غزو العراق للكويت حيث شاركت مصر بقواتها في حرب التحرير ولكن مبارك سحب قواته غداة تحرير الكويت خشية استخدامها في دخول أراضٍ عربية أخرى في ظل الأوضاع التي كانت قائمة حينذاك.

رابعًا: برز في العقدين الأخيرين توجه يعادي الدور الريادي لمصر حيث شب الصغار على الطوق وبدأ بعض منهم يتطاولون على الدور المصري ويتوهمون أنهم في منافسات معه بعد أن لاحظوا الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد فضلاً عن الإرهاق السياسي والاستنزاف العسكري الذي تتعرض له مصر في السنوات الأخيرة لأسباب لا تخفى على أحد، ومع ذلك تظل أبواق مأجورة ساعية للتشهير بدولة الأزهر والكنيسة القبطية والجامعات المزدهرة والأحزاب السياسية والنقابات المهنية ولكن تبقى مصر في النهاية ابنة شرعية للجغرافيا السياسية وعطاءً سخياً للتاريخ الوطني.

هذه ملاحظات أردنا بها أن نقول إن دور مصر الإقليمي ليس منحة من أحد وإن عروبتها هي ابنة التاريخ العريق والأمجاد الغابرة.. ولن تسقط مصر أبداً.