سمير السعداوي

غداة هجمات 11 أيلول 2001، تعيّن على زعيم «طالبان» الملا محمد أن يقرر سريعاً، بين التخلي عن أسامة بن لادن أو عن نظام «الإمارة الإسلامية» في أفغانستان. في تلك الفترة، قام وسيط عربي بزيارة أخيرة لقندهار وقابل الملا عمر ونصحه بخيار «المحافظة على الإمارة»، لم يرق الرفض «المفاجئ» لزعيم «طالبان»، للضيف العربي الذي انتفض عن كرسيه وغادر.

أيقن الملا عمر حينها أن علاقة الحركة بمحيطها العربي، أصيبت في مقتل، وأنه سيتعين عليها الانتظار طويلاً قبل استرداد شيء مما فقدته، الأمر الذي تحقق جزئياً بعد سنوات، من خلال افتتاح المكتب السياسي للحركة في الدوحة برئاسة محمد طيب آغا، الذي تمكن بفضل إتقانه العربية وسلاسته في التواصل مع الآخرين، من احتلال موقع تجاوز آنذاك وظيفته مديراً لمكتب الملا عمر.

لم يكن مطلوباً من زعيم «طالبان» تسليم بن لادن إلى الأميركيين، بل مجرد فك الارتباط مع «القاعدة»، نظراً إلى ما اقتضته ظروف «الزلزال» الذي هز أميركا والعالم كله آنذاك، حتى قيل إن ما بعد «11 أيلول» لن يكون كما قبله. وحده «مجلس شورى» الحركة في كويتا الباكستانية، استخف بهذه المقولة، وباشر وضع خطط لتحويل نظام «الإمارة» إلى حركة مقاومة للغزو الأجنبي. وليست مفارقة أن الرجل الذي يسيطر على «مجلس شورى كويتا»، هو الملا أختر منصور، الذي اختير خلفاً للملا عمر بعد إعلان وفاته الأسبوع الماضي.

عندما استقل زعيم «طالبان» دراجته النارية مغادراً مقره في قندهار للمرة الأخيرة، كان أيقن أمام زحف القوات الأميركية والأجنبية أنه سيضطر إلى التواري عن الأنظار في الجبال، والتحوّل زعيماً روحياً ورمزاً، وسيتعين عليه توزيع صلاحياته على الموثوقين لديه، ولعل أبرزهم جلال الدين حقاني، وهو أحد قادة المجاهدين الأفغان ضد السوفيات، والذي اختار اللجوء إلى داخل الحزام القبلي الباكستاني المحاذي للحدود مع أفغانستان، حيث ساهم في توجيه حركة المقاومة ضد الأجنبي، مسنداً القيادة الميدانية في هذا المجال إلى نجله سراج الدين، الذي عيّن بالأمس، نائباً لمنصور في زعامة «طالبان».

لطالما شكت قيادات ميدانية في «طالبان» من تحركات طيب آغا انطلاقاً من مكتبه في الدوحة، وقيامه بمبادرات تواصل وانفتاح لم يستثن منها الأميركيين، وذلك بالتوازي، وأحياناً بالتناقض، مع مجهودات كان مطلوباً من «العراب» الباكستاني للحركة بذلها، من أجل التقريب بين السلطة الأفغانية التي نُصّبت في كابول والمقاومة المتشددة التي غادرت قندهار مبدئياً، من دون أن ينحسر نفوذها أو تواجدها فيها، وكذلك على امتداد المناطق المحاذية للحدود مع باكستان وإيران.

دفعت تلك الشكاوى الملا عمر إلى التدخل أحياناً لمطالبة طيب آغا بعدم التفرد في تحركاته من دون العودة الى «مركز القرار»،حيث انحصرت «الدائرة الضيقة» بقلة من المحيطين بزعيم «طالبان» وخصوصاً نجله سردار يعقوب وشقيقه الملا عبد المنان، اللذين لم ينسحب قربهما من «المركز» نفوذاً على قيادات للحركة توزعت في أرجاء البلاد وفي أراضي باكستان المجاورة... توزّعُ أنتج تضارباً يوحي بانقسام بين لاعبين رئيسيين وثانويين، واعتقاداً خاطئاً بأن القرب من الزعيم يستدعي «وراثته»، في حين أن كلهم لاعبون تحت عباءة رجل لم يكن يحتكر من النفوذ سوى المعنوي منه، وتحت سقف «خط أحمر» لا يستطيع أحد التراجع عنه، وهو استمرار المقاومة الى حين خروج آخر جندي أجنبي من أفغانستان، حتى بات الجواب بديهياً على سؤال: أيهما سيعمّر أكثر، «طالبان» أم الوجود الأجنبي؟