غسان الإمام

شيئا فشيئا، يتوضح الخيال ليغدو واقعا وحقيقة: دولة إسلامية تقيمها أميركا أوباما وتركيا إردوغان في سوريا. وتديرها تحت حماية ووصاية هاتين الدولتين، شرطة مدنية إسلاموية «معتدلة». معظمها عاطل عن العمل والسياسة. ومقيم أصلا في فنادق إسطنبول السياحية.

ومن المقدر لهذه الدولة أن تحل محل «داعش» التي زعمت أنها دولة دينية تطبق «شرع الله» في مناطق واسعة سيطرت عليها، منذ أكثر من سنة، في العراق وسوريا. شعب الدولة «الناعمة» دينيا سيتألف من 1.5 مليون لاجئ سوري في تركيا. بالإضافة إلى الطامعين في الجنة، من السوريين النازحين داخل سوريا وخارجها.

هذه الدولة لم يعلن، بعد، رسميا عنها. فما زالت خريطة ورقية في مخيلة الدولتين اللتين يجمعهما «حلف الناتو» الذي هلل فورا لخطوة تركيا. خصوصا، أنها تطالبه بسلع عسكرية. أو سلف مالية. كل ما أعلن رسميا كان الجانب العسكري: إعارة قاعدة «إنجرلك» التركية لأميركا، بحجة أنها أقرب إلى سوريا. في مقابل قبول أميركا بإقامة «جيب تركي» في سوريا.

الطريف هنا إغفال الحليف الكردي من الذاكرة الأميركية. فمطارات كردستان أنسب وأقرب إلى العراق وسوريا من «إنجرلك». ومن القواعد الخليجية والأردنية التي تنطلق منها الغارات الأميركية، الأمر الذي قد يعني نقل بندقية الـ«إم سكستين» من الكتف الكردية إلى الصدر العالي التركي.

وأحسب أن الوفاق الذي خيّم فجأة على المعارضتين السياسيتين السوريتين، السياحية في الخارج. والمستأنسة بالنظام في الداخل، لم يكن مصادفة وطنية. فقد جاء الإعلان عنه، مع ارتفاع حرارة ألسنة المسؤولين الأميركيين «اللامرئيين»، عن الدولة الإسلامية الجديدة في سوريا. وقد وصلت حماسة المعارضة المستأنسة إلى مستوى التضحية بالاستثمار في نظام بشار. فقد دبت بالصوت ضده بالتنسيق مع «مزيكا» المعارضة السياحية!

في تداول إيجابيات وسلبيات إقامة دولة دينية في سوريا، أسأل عن ولع وإصرار الرئيس العلماني أوباما على الدولة الدينية «الإخوانية» التي أخفق في إقامتها في مصر وتونس، ليكرر المحاولة الفاشلة في سوريا التي تنطوي على أكثر من أربعين عرقا. ودينا. وطائفة. ومذهبا. وقبيلة. وعشيرة.

وحق الإسلامي راشد الغنوشي صرف النظر عن الدولة الدينية التي شجعته إدارة أوباما على إقامتها في تونس. فها هو يتحالف مع العلماني المخضرم قايد السبسي، لإقامة دولة ديمقراطية تستلهم المتوسطية البورقيبية. وفي مصر، يقبع الرئيس المخلوع محمد مرسي في السجن محكوما بالإعدام، لمحاولته التنسيق مع إيران وتركيا، لإقامة دولة دينية تلغي الثقافة الإنسانية التعددية التي قدمتها مصر إلى العالم العربي، مازجة بين التراث والحداثة.

باستثناء «داعش»، هناك أكثر من مائتي تنظيم ديني مسلح في سوريا. وكلها لا تداني حزب «العدالة والتنمية» التركي الذي دربته مراكز البحوث والتواصل الأميركية، على القبول باللعبة الديمقراطية، أساسا للوصول إلى الحكم والتناوب عليه، من خلال صندوق الاقتراع. وجعل الحوار مع الآخر. والاعتراف به. والتعايش معه، أساسا لسلم مدني مستقر. وإسلام اجتماعي متسامح.

كتبت منذ أسابيع قليلة، مناشدا النظام الخليجي عدم اعتماد مثل هذه التنظيمات، أساسا لمعارضة سورية مسلحة. فمعظمها كما يدل الوضع البائس في المناطق التي تسيطر عليها، تحاكي النظام في قمعه. ورفضه للقيم الإنسانية والإسلامية في التعامل مع الناس. وهي تفبرك أسماء وألقابا دينية لها ولزعمائها. وتطلق لحاها، إغراء للنظام الخليجي بتمويلها وتسليحها.

أومن بوطن عربي كبير يتجاوز في الاعتبار والأهمية لدي بلدي سوريا. إنما أعترف بأن هناك خصوصية محلية أو ظرفية لكل مجتمع عربي. لا أومن بشعوب. إنما بأمة عربية موزعة في مجتمعات لها خصوصياتها، بحكم التفرقة الطويلة. والانفصال البيئي والجغرافي. والاستعمار الأجنبي سواء كان دينيا أو أوروبيا.

من هنا، أكرر التوجه إلى النظام الخليجي، مناشدا أن يراعي التعددية السورية الدينية والبيئية، في بحثه عن نظام حكم لسوريا ما بعد الأسد. نعم، هناك أسلمة متزمتة ظرفية للمجتمع السوري، خصوصا في الريف. لكن هناك ملايين الطبقة الوسطى الواعية في المدن السورية.

هذه الشرائح غير المسلحة سوف تدافع بقوة عن ليبراليتها وتسامحها الديني، إذا ما أتيحت لها فرصة التعبير عن موقفها السياسي، حتى لو كان داخل جيب سكاني يحميها من إبادة النظام الطائفي لها، وتهيمن عليه دولة أجنبية كتركيا وأميركا، حتى ولو كانتا تحاولان فرض أسلمة «إخوانية»، بقوة الأمر الواقع.

الصراع الإقليمي والدولي على سوريا ألغى الحل الدولي، لإعادتها دولة موحدة، بحيث يبدو الحديث عن جهود المبعوث الأممي دي مستورا، في هذا المجال، نوعا من إضاعة الوقت. سوريا اليوم جيوب متناحرة: جيب تركي. آخر كردي. ثالث «داعشي». رابع إيراني/ علوي. وحديث عن جيب عراقي شيعي. وعن جيب أردني.

في منظور الجغرافيا السياسية، فرسم حدود وحجم الجيب التركي ينتظر «نجاح» تركيا في تقويض الجيبين الكردي و«الداعشي»، باحتلالهما. أو باختصارهما على الأقل طولا وحجما، بالقصف الجوي والبري الجاري حاليا عبر الحدود. وأعتقد أن تركيا ستتحدى الحظر الأميركي. لأنها مضطرة للتدخل بجيشها للسيطرة الأمنية داخل الجيب، ولمنع الطيران السوري من قصفه. ولردع الأكراد والتنظيمات الدينية من دخوله أو الاعتداء على المدنيين السوريين اللاجئين إليه.

تحدثت سابقا عن دفع الخطر (الكردي) الأقرب، بالخطر (التركي) الأبعد. هذا ما يجري اليوم عمليا. أخطأ الأكراد في تجاوز الخط التركي الأحمر. فبحجة مطاردة «داعش»، عبر الأكراد نهر الفرات، للتمدد غربا باتجاه المدن الحدودية، كجرابلس. الباب. منبج، وصولا إلى أعزاز. وتل رفعت. ونبّل التي تحتلها «داعش». وتنظيمات دينية أخرى. بالإضافة إلى جيوب للنظام السوري فيها. الخطأ الثاني للأكراد تمثل في طرد المدنيين العرب والتركمان، من شريط حدودي كاد يصل إلى 400 كيلومتر، أي نصف طول الحدود التركية/ السورية.

وهكذا، فهناك حديث عن جيب تركي، بعمق مائة كيلومتر. وبعرض 50 كيلومترا. ذلك يعني دولة حجمها نصف حجم لبنان. وإقصاء الأكراد و«داعش» عن الفرات العابر للحدود. وربما الاضطرار لاحتلال حلب، لجعلها عاصمة للدولة الإسلامية في الجيب التركي، وخالية من قوات النظام والتنظيمات الدينية التي تناوبت كلها على تدميرها. مع ترك إدلب في الشمال والغرب، لمرحلة تركية ثالثة.

تمدد الجيب التركي عمقا وعرضا، سوف يرضي «الإخوان» أعوان الأتراك. كما يرضي سكان حلب من المدنيين السوريين (خمسة ملايين). فقد يؤمن لهم الأمن. والإعمار. لكن انتفاخ البالون التركي قد يوقظ الأطماع التركية الهاجعة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما طالبت تركيا بضم حلب والموصل، الأمر الذي لم يتحقق، بسبب هزيمتها آنذاك في الحرب.

سوريا الآن على المشرحة الدولية والإقليمية. الصراع ليس لتوحيدها. وإنما للإمعان في تمزيقها. بعدما أفقدتها المعارضتان السياسية والمسلحة هويتها العربية. وسيادتها القومية. هناك احتمال إقامة جيب أردني في سوريا الجنوبية، إذا تبنت أميركا المشروع. ولم يعترض عليه النظام الخليجي. وفي المنظورين التاريخي والجيوسياسي، يبدو الحديث عن هذا الجيب ضروريا، لتعريف الأردنيين. والسوريين. والخليجيين بإيجابياته. وسلبياته.