كمال بالهادي

عندما أقدم دنيس روهن على حرق المسجد الأقصى في الحادي والعشرين من أغسطس/آب سنة 1969، انتفض العرب والمسلمون في كامل أنحاء العالم ضد العمل الإجرامي، لكن الهدير سرعان ما خفت، لترتكب قوات الاحتلال الصهيوني مجازر متلاحقة ضد الفلسطينيين ورموزهم وشيوخهم وأطفالهم، ثم ينام العرب والمسلمون بعد أيام من الصراخ والعويل، كأن شيئاً لم يكن.

يؤثَر عن غولدا مائير رئيسة حكومة الكيان السابقة، أنها قالت عن حادثة حرق المسجد الأقصى، من طرف أسترالي متصهين «ﻟﻢ ﺃﻧﻢ ﻟﻴﻠﺘﻬﺎ ﻭﺃﻧﺎ ﺃﺗﺨﻴﻞ ﺍﻟﻌﺮﺏ ﺳﻴﺪﺧﻠﻮﻥ «ﺇﺳﺮﺍﺋﻴﻞ» ﺃﻓﻮﺍﺟﺎً ﻣﻦ ﻛﻞ ﺻﻮﺏ ﻟﻜﻨﻲ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻃﻠﻊ ﺍﻟﺼﺒﺎﺡ ﻭﻟﻢ ﻳﺤﺪﺙ ﺷﻲﺀ ﺃﺩﺭﻛﺖ ﺃﻥ ﺑاﺳﺘﻄﺎﻋﺘﻨﺎ ﻓﻌﻞ ﻣﺎ ﻧﺸﺎﺀ ﻓﻬﺬﻩ ﺃﻣﺔ ﻧﺎﺋﻤﺔ». وقبل ذلك بسنوات، قال مناحيم بيغن رئيس وزراء الكيان عقب إعلان قيام دولة الاحتلال في مايو/أيار من سنة 1948، وخسارة العرب جزءاً من أراضي فلسطين التاريخية، «نحن لسنا أقوياء، العرب هم الضعفاء». والمتأمل في مثل هذه الخطابات، يدرك أن الجرائم الصهيونية في فلسطين، هي أعمال إرهابية بما في الكلمة من معنى، لكنهم إرهابيون يحميهم عجز العرب وضعفهم، فردود أفعالهم لا تتجاوز الصراخ والعويل.

علي الدوابشة ابن الثمانية عشر شهراً الذي استشهد حرقاً على يد المستوطن الصهيوني المتطرف يهوذا ليندسبرغ، ليس الأخير في قائمة الأطفال الفلسطينيين الذين اغتالتهم العصابات الصهيونية وجيش الاحتلال. فمنذ العام 2000 استشهد 1421 طفلاً فلسطينياً عن طريق الاغتيال أو في مواجهات مع الجيش «الإسرائيلي» أو بعد تعرضهم للقصف. وبحسب منظمة «الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال/ فرع فلسطين» فقد قامت قوات الاحتلال باغتيال أكثر من 1400 طفل فلسطيني منذ بداية الانتفاضة الثانية، إلى حدود السنة الحالية. وتشير المنظمة التي انطلقت في توثيق جرائم الاحتلال ضد الأطفال الأبرياء إلى أن أغلب عمليات الاستشهاد كانت بالطلق الناري المباشر في الرأس والصدر والبطن، أي أنها إصابات محددة بدقة لإنهاء حياة هؤلاء الأبرياء، إذ نقل عن وزير العدل الصهيوني قوله إن «أطفال فلسطين ثعابين وجب قتلهم قبل أن يكبروا».

الجرائم ضد الإنسانية ثابتة ولا جدال فيها. وأسماء أطفال فلسطين الشاهدة على تلك الجرائم لا يمكن أن يمحوها الزمن. فأسماء محمد الدرة، وإيمان حجّو، ونفين جهاد حلمي (3 سنوات) وملاك جمال بركات (3 سنوات) ومادلين مدين يونس (9 أشهر) وغرام إبراهيم مناع (سنة واحدة) وأخيراً وليس آخراً، علي الدوابشة (18 شهراً)، شاهدة على أن الإرهاب الصهيوني متواصل منذ ما يزيد على الستين سنة من عمر الاحتلال. ولكن ما الذي يفعله العرب حتى يلجموا هذا الإرهاب الدموي؟

هناك حدثان يلفتان النظر في سلوك الحكومة الصهيونية، الأول مشاركة رئيس حكومة الكيان في المسيرة الدولية ضد الإرهاب التي وقع تنظيمها في باريس عقب أحداث شارلي إبدو، والثاني هو تصريح بنيامين نتنياهو عقب حادثة إحراق الطفل علي الدوابشة، بوصف ما وقع «عملاً إرهابياً». هذا السلوك يكشف أن حكومة الاحتلال

تتحرك وفق خطة مدروسة بحيث تظهر دوماً في حجم الضحية المهددة بالإرهاب رغم كل الأعمال الإرهابية التي تقوم بها من دير ياسين إلى صبرا وشاتيلا وغزة، وتتمرد على كل القوانين الدولية وترفض لجان التحقيق، ثم تتهم الفلسطينيين بالإرهاب. هكذا هو الاحتلال يفعل ويفكّر ويخطط وأصحاب الحق لا يتجاوز ردّ فعلهم العويل والبكاء وبعض الصراخ في تظاهرات يقل حجمها من حدث إلى آخر، واهتمام إعلامي يكاد هو الآخر يضع القضية الفلسطينية في آخر اهتماماته.

يقول المفكر السوري الراحل ياسين الحافظ، إن فلسطين لن يعيدها الصراخ والعويل، وإن «إسرائيل» ليست قوية بقدر ما نحن ضعفاء، فهي تستمد قوّتها من تأخرنا ومن فواتنا ومن عجزنا عن إدارة الصراع معها. ومادام الصراع مع الكيان يدار بالطريقة السلبية ذاتها، فإن لا شيء سيتغير في هذه المعادلة سوى في اتجاه واحد. بمعنى أن «إسرائيل» تزداد قوة وغطرسة و إرهاباً، ويزداد العرب تشتّتاً وضعفاً وانحداراً. وبقدر ما يهب العالم لنصرة الكيان، في كل مناسبة، وحتى من دون مناسبة، فإن حادثة إحراق الطفل علي الدوابشة لم تحرك سواكن القرار السياسي في العالم المتحضر، ولن تحركه حتى إن تعددت مثل هذه الجرائم مستقبلاً، رغم تكرارها مئات المرات في السابق. وحدهم أحرار العالم من أوروبا وأمريكا الجنوبية، هم الذين يرفعون أصواتهم عالياً معتبرين «إسرائيل» دولة إرهابية. أما من يعتبرون أنفسهم رافعين لواء دولة الخلافة فإنّ بوصلتهم لا تشير أبداً إلى القدس، ولا تشير مطلقاً إلى احتمال أنهم سيضعون في حسبانهم تحرير فلسطين. إن بوصلة من يعتبرون أنفسهم مدافعين عن الشريعة الإسلامية هي بوصلة مشبوهة.

في هذا المشهد العربي الممزق، وفي حفلة الجنون والدم التي تعصف بالوطن العربي، وفي غياب أي رؤى عقلانية لمستقبل هذه الرقعة الجغرافية ولمكانتها في العالم المتغيّر بسرعة قياسية، تصبح عملية حرق الرضيع علي الدوابشة، حدثاً ثانوياً أو حدثاً غير ذي أهمية أساساً. لكن كل ما يحدث من تدمير وتخريب ممنهج للدول العربية ومقدراتها، هو مرتبط بطريقة أو بأخرى بالقضية الفلسطينية. فالمؤامرات لم تنقطع من قبل الكيان، من أجل بلوغ هدف الحركة الصهيونية العالمية بتأسيس «إسرائيل الكبرى» من النيل إلى الفرات. ولتحقيق هذا الوهم يجوز في فقه الصهاينة ارتكاب مثل هذه الجرائم والدفع بأوضاع العالم العربي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى مزيد من الوهن والضعف. لكن العرب يتحملون المسؤولية الكبرى في حالة الهوان التي تردوا إليها، فهم كانوا أذرعة مساعدة على تنفيذ المخططات الشيطانية.&

لم يدم البكاء على علي الدوابشة هذه المرة سوى سويعات معدودة، وحدهم الفلسطينيون وأحرار العالم خرجوا منددين بالجريمة، لكن العرب لا حياة لمن تنادي. فهم أصلاً، في بحور الدماء والنار سابحون.