وحيد عبد المجيد

التمييز بين الاستراتيجي والتكتيكي في سياسة إيران الخارجية هو مفتاح فهم سلوكها التفاوضي الذي أسفر عن التوصل إلى «اتفاق فيينا» مع «مجموعة 5+1» في 14 يوليو الماضي. كانت المرونة التي أبدتها طهران في «ربع الساعة الأخير» متوقعة في ضوء استراتيجيتها التي تقوم على أن إكمال مشروعها الإقليمي مُقدم على التسلح النووي. وتنطلق هذه الاستراتيجية من افتراض وجود فرصة تاريخية لإعادة صوغ المعادلات الإقليمية وفق المصالح الإيرانية التي يراها التيار الإصلاحي من زاوية أوسع مقارنة بالتيار المحافظ.

وليست هذه هي المرة الأولى التي ترجئ فيها إيران مشروعها النووي من أجل هدف آخر. فقد قضَّت الحرب الأميركية التي أسقطت نظام صدام حسين خلال أسابيع قليلة عام 2003 مضاجع صانع القرار الإيراني. كانت لحظة مفزعة لم يمر قادة إيران بمثلها منذ أن سيطروا على السلطة عام 1979. كانت لحظة «تجرع السم» لإنهاء الحرب مع العراق أقل وطأة عليهم. ولذلك كانت المحافظة على سلطتهم هي هدفهم الأول عندما قرروا المبادرة بكشف برنامجهم النووي «بيدي لا بيد عمرو» قبل أن يصبح مبرراً لاستهدافهم بعد صدام حسين وجنرالاته.

غير أن الباب الذي فتحوه أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية في ذلك الوقت أخذ يضيق بمجرد شعورهم بالاطمئنان عندما بدأت الدائرة تدور على القوات الأميركية في العراق منذ أوائل 2004. ولم يمض عامان حتى كان هذا الباب قد أُغلق تقريباً في ظروف لم تجد واشنطن ما تفعله فيها إلا اللجوء إلى مجلس الأمن، لفرض عقوبات على إيران، في الوقت الذي كان الوضع على الأرض في العراق يفرض تنسيقاً غير مباشر بينهما.

وفى تلك الظروف استأنفت إيران برنامجها النووي بالتزامن مع التغلغل في العراق الذي صار مفتوحاً أمامها، وتطوير تحالفها مع نظام بشار الأسد في سوريا ليصبح معتمداً عليها، وزيادة دعمها لـ «حزب الله» على نحو مكَّنه من الصمود رغم ضراوة الحرب التي شنتها إسرائيل عليه، وعلى لبنان عموماً، عام 2006. ويعني ذلك أن إيران استأنفت برنامجها النووي بسرعة لم تتوقعها لأن تغلغلها في العراق دعَّم نفوذها الإقليمي، وفرض على واشنطن التعاون ضمنياً معها.

يعرف صانع القرار الإيراني إذن أن مشروعه الإقليمي هو الذي دفع «الشيطان الأكبر» إلى التفاوض وتقديم عرض لم يكن متصوراً أن يصدر عنه قبل سنوات. ولذلك لم تتردد طهران في التجاوب مع هذا العرض وتقديم تنازلات مؤلمة كان خطابها السياسي يعدها من باب المستحيلات، لكي تتمكن من تحقيق هدفها الاستراتيجي في إكمال مشروعها الإقليمي وتكريس ما حققته فيه خلال السنوات الأخيرة. فالأولوية اليوم لتدعيم سيطرتها على العراق، واستعادة المناطق التي تمدد فيها «داعش» بدءاً بمعركة الرمادي، وضخ مزيد من الدعم لوكيلها الحوثي الذي تتراجع مليشياته أمام القوى المؤيدة للشرعية في اليمن.

وهذا هدف يستحق أن ترجئ إيران مشروع عسكرة البرنامج النووي أو حتى تلغيه، ما دام الاتفاق مع «مجموعة 5 + 1» لا يُعيق مشروعها الإقليمي، بل يُدَعمه مالياً في صورة غير مباشرة من خلال رفع العقوبات والإفراج عن الأرصدة الكبيرة المجمدة. وفي مثل هذه الظروف، يقود أي نوع من الحسابات إلى تقديم تنازلات كبيرة ظل المفاوض الإيراني يساوم عليها حتى اللحظة الأخيرة.

وعلى سبيل المثال كان خفض كمية اليورانيوم المُخصَّب بأي مقدار «خطاً أحمر». ومع ذلك قبلت إيران التخلص منه تقريباً، إذ ينص الاتفاق على احتفاظها بثلاثمائة كيلوجرام فقط من أصل عشرة آلاف. وبعد أن كان رفع العقوبات جميعها فور توقيع الاتفاق «شرطاً غير قابل للمراجعة»، وافقت طهران على أن يبدأ ذلك في نهاية العام وبموجب تقرير تقدمه الوكالة الدولية للطاقة الذرية يؤكد التزامها الاتفاق. وهذا فضلاً عن مواصلة أميركا وأوروبا حظرهما على بعض أوجه التعامل التجاري والمالي معها، وحرمانها من امتلاك صواريخ بالستية لمدة 5 سنوات أخرى.

فالمهم الآن بالنسبة إلى إيران هو مشروعها الإقليمي. وهذا هو ما ينبغي أن يبني العرب حساباتهم على أساسه في الفترة المقبلة، فلا يستهينون بالتنازلات الكبيرة التي اضطرت إيران إلى تقديمها، ولا يقللون من أهمية المكاسب التي ستحصل عليها لإكمال مشروعها الإقليمي. ولا ينبغي في الوقت نفسه استبعاد احتمال حدوث تغير تدريجي في سياسة إيران يُهذِّب هذا المشروع ويتيح حواراً جاداً حول مستقبل المنطقة.