صالح القلاب

مع أن هذه الظاهرة قديمة قدم التاريخ فإن هناك الآن تساؤلات وبإلحاح عن أسباب ظهور «القاعدة» و«داعش» وأيضًا «النصرة»، وظهور كل هذا العنف الأهوج الذي بات يهدد منطقتنا العربية كلها، والذي أصبح يسيطر على مناطق واسعة في سوريا والعراق واليمن، وتمكن من إيجاد موطئ قدم له في سيناء خلال الفترة القصيرة التي حكم فيها «الإخوان المسلمون» مصر وكان حكمهم بشهادة المتابعين عن قرب والمراقبين عن بعد أسوأ من حكم «أبو سعيد» قراقوش بن عبد الله الأسدي، الذي كان خادمًا لصلاح الدين الأيوبي ثم وصلت إليه مقاليد الأمور في مصر، والذي يمتاز عن «الإخوانيين» بأنه ظُلِمَ كثيرا، وأن معظم ما قيل عنه غير صحيح، وأن عهده تميز بتحقيق إنجازات كثيرة لا تزال قائمة في القاهرة وفي غيرها حتى الآن.

كنت في مقال سابق لـ«الشرق الأوسط» قد تطرقت لما يسمى «الهويات القاتلة» التي تتشارك مع «الإرهاب» في أن أسبابهما تتقارب كثيرًا حتى إنها تبدو وكأنها متماثلة وواحدة، إذْ إن ما يجعل أبناء بعض الطوائف يحتمون بطوائفهم عندما يشعرون بتمادي الآخرين الممسكين بمقاليد الحكم في اضطهادهم وتهميشهم هو ما يدفع بعض «الهامشيين» وضعاف النفوس والجهلة والمغرَّر بهم إلى البحث عن أنفسهم في التنظيمات الدموية التي تتفنن في قتل الأبرياء وذبحهم باسم الدين الإسلامي، بينما هذا الدين السمح المتسامح بريء من هذه التنظيمات براءة الذئب من دم «ابن يعقوب».

وبداية، فإنه لا بد من الإشارة، ولو مجرد إشارة، إلى أن تاريخنا العربي والإسلامي العظيم فعلاً وحقًا وحقيقة لم يسْلم من مثل هذه التشوهات، فالحركة «القرمطية» الباطنية التي انشقت عن الدولة الفاطمية ودامت زهاء قرن كامل، والتي بدأت من جنوب بلاد فارس ثم انتقلت إلى الكوفة والأحساء والبحرين واليمن، قد اتَّبعت أساليب دموية لا يشبهها إلا أساليب «داعش»، من بينها اختطاف الحجر الأسود لأكثر من عشرين عامًا، ومن بينها منع المسلمين من أداء فريضة الحج لأكثر من عقدين من السنوات.. لكنها في النهاية انتهت إلى الزوال النهائي رغم أنها أقامت شبه دولة شملت كل جنوب الجزيرة العربية وعُمان وخراسان ودمشق وحمص وبعض نواحي القاهرة.

إن هذه هي الحالة المبكرة الأولى، أما الحالة الدموية الأخرى، التي اعتبرت انفصالاً أو انشقاقًا عن الفاطميين الذين انطلقوا من «المهدية» جنوب تونس واحتلوا مصر من العباسيين وأنشأ المعز لدين الله الفاطمي «قاهرته» على ضفاف نهر النيل كعاصمة للدولة الفاطمية، فهي حركة أو طائفة الحشاشين التي اعتمدت القلاع الحصينة في ذرى الجبال لنشر الدعوة الإسماعيلية النزارية في بلاد فارس وفي بلاد الشام على غرار ما فعله الحسن الصباح ببناء «قلعة ألْموت»، أي قلعة النسور، التي كان يرسل منها القتلة المحترفين لاغتيال المناهضين له ولدعوته، وهو المسؤول عن محاولة اغتيال صلاح الدين الأيوبي.. والسبب هو إلغاؤه دولة الفاطميين واستعادة الحكم العباسي إلى ما كان عليه في أرض الكنانة.

والحقيقة أن هذه الظاهرة، ظاهرة العنف والإرهاب، وفي كلتا الحالتين الآنفتي الذكر، هي كالظاهرة الحالية المتمثلة بـ«داعش» و«القاعدة» و«النصرة»، لم تنم ولم تزدهر وتتعاظم إلا في بيئة ضعف الدولة المركزية. فـ«القرامطة» نبتوا في ظل ضعف الدولة الفاطمية – الإسماعيلية، وكذلك «الحشاشون»، والآن فإن «القاعدة» كانت قد ظهرت في أفغانستان في حماية دولة طالبان، ورعايتها بينما ظهر «داعش» وكذلك «النصرة» بعد تراخي قبضة الدولة العراقية وانهيار الدولة السورية وضعف الدولة اليمنية في عهد الرئيس الصُّدفة علي عبد الله صالح.

ويقينا، فإن أهم أسباب ظهور هذه التنظيمات الإرهابية الدموية، «داعش» و«القاعدة» و«النصرة» و«خراسان»، وما قد يطرأ من تنظيمات إذا بقيت أمور المنطقة تسير في هذا الاتجاه الذي تسير فيه، هو تراجع المد القومي، والمقصود هنا هو الوجدان وهو القناعات وليس الأحزاب والتنظيمات التي اعتبرت منطلقاتها قومية مثل حزب البعث العربي الاشتراكي، وحركة القوميين العرب، والحركة الناصرية وما كان أعلنه معمر القذافي من هذيان ظلامي قومي كان عبارة عن صراخٍ في فراغ لا يمت بأي حملة لا للدعوة الناصرية ولا للدعوة البعثية ولا للتنظيم الذي كان أسسه الدكتور جورج حبش عندما كان طالبًا في الجامعة الأميركية في بيروت والذي كان شعاره: «دم جديد نار.. وحدة تحرر ثار»!!

كانت هزيمة يونيو (حزيران) عام 1967 بداية هزيمة لهذه الأحزاب والتنظيمات وأشباه الأحزاب والتنظيمات التي حكمت في مصر وسوريا ولاحقًا في العراق واليمن الجنوبي وليبيا، والأسوأ في هذا المجال أن هذه الهزيمة التي مكنت إسرائيل من احتلال فلسطين التاريخية كلها واحتلال سيناء حتى قناة السويس واحتلال هضبة الجولان حتى مشارف العاصمة دمشق قد اعتبرت هزيمة للأمة العربية كلها، مع أن الذي انهزم فعلاً هو النظام السوري ونظام الرئيس جمال عبد الناصر الذي ذهب إلى تلك الحرب تماشيًا مع صيْحات الجماهير التي كانت تصدق أن هناك «ظافرا» و«قاهرا»، والتي لم تكن تعرف أن تجربة الوحدة المصرية - السورية الفاشلة ومغامرة التدخل العسكري في اليمن قد جعلت الجيش المصري يذهب إلى المواجهة مع إسرائيل وهو في أوضاع معنوية وتعبوية يُرثى لها وبائسة.

وكل هذا، ولعلَّ ما زاد الطين بلَّة، كما يقال، أن كل التجارب الوحدوية خلال تلك الفترة، وأولاها تجربة الوحدة المصرية - السورية (الجمهورية العربية المتحدة)، قد انتهت إلى الفشل الذريع المُحْبط، وذلك علاوة على أن كل الأنظمة العربية التي حكمت باسم العروبة قد قدمت أسوأ «النماذج» الطائفية والإقليمية، ومارست استبدادًا آسيويًا بدائيًا لا يزال نظام بشار الأسد يمارسه بأبشع أشكاله حتى الآن.

وهكذا بالنتيجة، فإن هذه الأنظمة المشار إليها لم تُقدِّمْ إلى العرب والعروبة إلا «الاحتلالات» والهزائم أمام إسرائيل، هذا بالإضافة إلى الفساد المُرعب والتخلف وتعطيل الحياة السياسية وتشويه الحياة الاجتماعية والفقر والبؤس و«التَّمذْهُبْ»، مما جعل الناس يهربون في البداية إلى «الإخوان المسلمين» الذين انكشفوا على حقيقتهم قبل أن يصيح الديك، وجعل بعضهم يهرب لاحقًا ولو عاطفيًا إلى «القاعدة» وباقي التنظيمات الإرهابية التي سرعان ما خيبت آمال حتى الذين راهنوا عليها في البدايات.

إن هذا هو واقع الحال، وإن ما أدَّى إلى الفراغ الذي حاولت التنظيمات الإرهابية ملأه ولا تزال تحاول هو استمرار غياب الأحزاب الاجتماعية البرامجية، وهو انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال الشيوعية العالمية وأحزابها، وهو أيضًا انتصار الثورة الإيرانية (عام 1979) التي ما لبثت أن اتضحت على حقيقتها المذهبية بالتدخل في العديد من دول هذه المنطقة على أساس طائفي وعلى غرار ما يجري الآن في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين.

إنه لا شك في أن ظاهرة التنظيمات الإرهابية زائلة لا محالة كما زال «القرامطة» و«الحشاشون»، لكن الإسراع في هذا الزوال يقتضي أداء غير هذا الأداء، ويقتضي تعاونًا عربيًا نظيفًا على صعيد الدول وعلى صعيد المؤسسات الشعبية، فالحالة ليست مستحيلة لكنها خطيرة، والمعالجة يجب ألا تقتصر على العمل العسكري الجماعي وحده وإنما أيضًا على التعبئة الفكرية الصحيحة والسليمة، وعلى إصلاح الهيئات الدينية التي من المفترض أن تقدّم هذا الدين الحنيف لأهله وللآخرين بصورته الفعلية والحقيقية، وليس بهذه الصور المشوهة التي تشكل البيئة التي تبحث عنها تنظيمات الإرهاب والتدمير والقتل.