محمد المزيني

عجزنا - وما زلنا - عن قراءة وتحليل ظاهرة الإرهاب بموضوعية وحيادية، بعيداً عن نطاقات التجاذبات والصراعات الفكرية المؤدلجة؛ لأننا - ببساطة - فشلنا على نحو ما في تأسيس مراكز بحث ودراسة؛ تعنى بظواهر المجتمع السعودي، الذي تتصاعد وتيرة نموه من دون أدوات ضبط، تاركين للأدوات التقليدية حرية تشكيلنا.

&

طالما أنه لا توجد مراكز بحث متخصصة فسنظل مرتهنين للتخمينات والقراءات والاستنتاجات المبتورة، تلك التي تحظى بقبول ثلة من المنتفعين من الوضع الراهن، تعزز لبعض الاتجاهات بحفاوة وتأييد؛ لأنها تدفع فقط عنها أصابع الاتهام، بينما هي لا تتورع عن قذف التهم على الآخرين بكل بسالة.

&

بعض الإسلامويين مثلاً، يجدون فيها شهادة تبرئة لحراكهم المنظم داخل المجتمع، لذلك سريعاً باركوا بعض المقالات والمقولات التي تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي بشيء من الفرح؛ لما تضمنته من نقد لاذع لمن يتهمون السعودية بالإرهاب. لم يلتفت هؤلاء الفرحون إلى اللغة التعميمية الفجة والأساليب الخطابية الفضفاضة التي كتبت بها؛ لتخلط ما بين العام والخاص، والخارجي والداخلي؛ فالتبست المفاهيم والعادات والتقاليد بالقيم الحقيقية، فكانت النتائج المتحصلة منها فجة لا يقبلها العقل الحصيف ولا الذوق السليم، وكأنَّ الإرهاب الذي عانينا من ويلاته أشبه ما يكون بحكاية سامجة، يجب تبرئة الوطن من لوثته، وكأن الإنسان شيء والوطن شيء آخر يختلف عنه.

&

يجب علينا أن نعترف أولاً ونحن في طريقنا إلى دراسة هذه الظاهرة أن هؤلاء شباب سعوديون، وأن أعدادهم مرعبة ومتزايدة، وأن نعترف أنهم نتاج لبعض التعاليم والثقافات ولبعض العادات والتقاليد التي اكتسبوها، وكانت عنصراً مساعداً لهم على قبول كل الدعوات الجهادية.

&

قد ننفي عنا هذه التهمة في حالة واحدة، أن تنظيم «داعش» المزعوم مثلاً يستخدم السحر، ويعقِد لأبنائنا وبناتنا عن بعد بواسطة شبكات التواصل الاجتماعي.

&

من بين هذه المقالات الساذجة التي طارت بها مراسيل السذج من ضحايا الدفع الاستقطابي المسيس، مقالة كتبها أحدهم بتوصيفات فجة خالية من التحليلات التي ترقى إلى مستوى العقل السليم، ولاسيما أنه قد استفتح مقالته بتصريح خطير، مدَّعياً أنه يعلم أولئك الصهاينة المندسين بيننا، هذه التعميمية التي خلطت الأمور دفعت بالمؤدلجين إلى استثماره، واتخاذه سلاحاً يشهر في وجه من اتخذوهم خصوماً لهم، وإسقاطه على كثير من كتاب الوطن على طريقة تصفية الحسابات، أسهم في ذلك استخدام الكاتب بعض العبارات الكلاسيكية والرؤى المقاربة للخيالات العتيقة، وكأنه يقرأ لنا من كتاب أحجار على رقعة الشطرنج، متناسياً أن اللعب اليوم بات على المكشوف، فلو قال لنا هذا القول في ثمانينات القرن الماضي، والذي يعرف تفصيلاته جيداً من خلال تجربته الخاصة، لصدَّقناه وشكرنا سعيه، أما أن يحقن المقالة بكثير من العبارات القاسية، والأحكام الصارخة على أناس يعلمهم هو جيداً من دون غيره بطريقة ديماغوجية ترهيبية، فهو أمر لا يزيد العامة إلا تشنجاً وضغينة، وقد حدث، إلا أنه نسي أننا اليوم في مواجهة مكشوفة مع قوى الشر، وأن المزايدة على حب الوطن قد حسمت منذ أن قامت ثورات الخريف العربي، فقد علمتنا الدرس جيداً وأن الوطن معادل تماماً لوجود الإنسان، العبث به يعني دماراً شاملاً لكل المكونات، فلا حاجة لنا اليوم إلى من ينصِّب نفسه مدافعاً عن الوطن وعن الشعب بالتحذير من دسائس المندسين ومكائد الكائدين وخطورتهم.

&

أما التشكيك والتخويف والتحذير من النقد البناء الموجه للتعليم والمناهج هو مماحكة وادعاء كمال لا يقرُّه عاقل، ولن يوصلنا إلا إلى طرق مسدودة، فالنقد والتصحيح هو ديدن المجتمعات المتطلعة فنحن لا نزال نتشكل، وعلينا أن نتشكل وفق معطيات العصر؛ كي لا نظل في مؤخرة الدول.

&

هذه المقالة التي حظيت بمباركة شعبوية مدفوعة بالحراك الصحوي المتواري خلف مواقع التواصل الاجتماعي، شجعت بعضهم على الخروج بالطريقة القديمة نفسها، تلك التي لا يسعها قديماً في كل خطابتها المنبرية إلا أن تنحى باللائمة على سياسات الدولة في كل ما يحدث، بما في ذلك التعليم، وهي لازمة صحوية معروفة، منها رسالة وجهها أحد الناشطين الصحويين تنفي تهمة الإرهاب عن المناهج، وتبرئ ساحة المراكز الصيفية ونشاطات التوعية الإسلامية، هؤلاء وأمثالهم يعدون أنفسهم موجهين استثنائيين لمجتمعنا، ويغضون الطرف عن طرائق التربية والتعليم التقليدية، ويتناسون أو يتجاهلون عادات وتقاليد المجتمع المتطرفة في التقسيم وفي نظرته بعضه إلى بعض، بما يشي بالطبقية العرقية والمذهبية المغطاة بورق «سلوفان» ناعم وبراق، لا يلبث أن يتمزق ويسقط حجارة فوق الرؤوس؛ لينكشف المستور ويفتضح عورنا سريعاً.

&

بعد ذلك نجد بعض من يحاول التدليس علينا؛ مسقطاً كل مشكلاتنا على الآخر الذي اتخذناه كـ«خيال مآتة»، حتى أمسينا معه كمن يحارب طواحين الهواء، ثم بعد ذلك ندعي أننا قد تعلمنا جيداً وتربينا على مناهج إسلامية قويمة، وحفظنا القرآن من دون أن نعي تعاليمه جيداً.

&

الكُتاب الذين ينفون عن مناهجنا وتعليمنا وتربيتنا وعاداتنا وتقاليدنا ما يقال عنها، ويرشقون كل الناقدين لها بالمؤامرة والعمالة والتصهين قد تجافوا كل هذه الحقائق لغايات ما، ولو أنهم وقفوا وقفة صادقة مع الله ثم مع أنفسهم وتأملوا في ما علق بنا من ورطة إرهابية؛ لأدركوا أنهم كمن يواري أوجاعه بحفنة مسكنات، فليس أمامنا اليوم من أجل إصلاح مجتمعنا ليصلح وطننا سوى السعي حثيثاً لتأسيس مراكز تعنى بدراسة المجتمع السعودي وما يعاني منه، وتجعل الإرهاب على رأس قائمة اهتمامها بعيداً عن لغة التخمين والتدليس، وهذا سينتزع الأفكار العتيقة من رؤوسنا ويشرد مخاوفنا وشكوكنا غير المبررة من قلوبنا، وسننظر إلى قضايانا الشائكة بموضوعية وعمق، من دون أن نتراشق بالتهم.
&