زياد الدريس

تكامل انهيار الأندلس بسقوط غرناطة في العام ١٤٩٢، وكان المحظوظ من أهلها من استطاع الهرب بحياته وأهله ومفتاح بيته إلى الضفة الجنوبية من البحر المتوسط.

&

في مدينة شفشاون الصغيرة (كما أشرت في المقالة السابقة) وفي مدن مغاربية أخرى ما زال بعض فلول الأندلسيين الهاربين يحتفظ حتى اليوم، بعد مرور أكثر من ٥٠٠ سنة، بمفاتيح بيوتهم الأندلسية التي هُجّروا منها حينذاك.

&

في شفشاون وفي أصيلة وطنجة وفاس وغيرها من المدن، ستجد بيوتاً مجاورة لبيوت يهود هُجّروا مع العرب والمسلمين من الأندلس. لكن اليهود الذين هُجّروا عنوةً من بيوتهم في الأندلس هَجَروا برغبتهم بيوتهم المغاربية هذه في ما بعد العام ١٩٤٨ إلى فلسطين كي يقيموا دولة إسرائيل، ويقوموا هم، المهجَّرون من قبل، بتهجير الفلسطينيين عنوةً من بيوتهم إلى الشتات ومعهم مفاتيح بيوتهم المقدسية بأمل العودة!

&

كيف استطاع اليهود/ الصهاينة نسيان، أو نكران، تلك المرحلة الاستقرارية الفريدة لهم في الأندلس، من بين تاريخ حياتهم المشتت بين البلدان طوال قرون من التهجير؟

&

كيف ذابت من مهجتهم أو انزوت نعمة التعايش الأندلسي التي لم يحظوا بمثيلها من قبل، ومن بعد. تلك النعمة التي وصفها الكثير من الكتّاب الغربيين قبل كتّاب العرب بأن حقبة الأندلس تُعد تاريخياً، وبلا منازع، أبرز تجارب التعايش بين المسلم والمسيحي واليهودي، حتى الآن.

&

كيف استطاع اليهود أن ينسوا أو يتناسوا آلام التهجير التي اكتووا بها برفقة جيرانهم من عرب ومسلمي الأندلس الذين ناصروهم ضد صليبيي إسبانيا، فيعمدوا قبل سبعين عاماً إلى احتلال بيوت العرب المقدسية وتهجير أهلها منها؟ ألم تكن الـ ٥٠٠ عام من (الشتات) الجماعي للمسلمين واليهود معاً كافية لتهذيب النفس البشرية وتحسّس آلام الآخرين؟!

&

يحظى أدب العودة، الشعري والروائي، بمخزون إنساني ثري ومشوق، يرتكز في شكل أساسي في ثلاثية مآسي الأندلس وفلسطين وجنوب أفريقيا. لكن هذا الأدب لم يلتفت في شكل كافٍ إلى مفارقة تحول المشاعر اليهودية من الحلم بأرض العودة (الأندلس) إلى أرض الميعاد (فلسطين)، وذلك إثر نجاح الحملة التسويقية الكبيرة التي نظمتها جمعيات صهيونية متنفذة ومنتفعة في أحياء اليهود المغاربية مطلع القرن الماضي، حيث نجحت في إقناع يهود المغرب، وإن لم يكن كلهم، بترك مفاتيح بيوتهم الأندلسية المعلقة بأمل العودة، والمجيء إلى «أرض الميعاد» لمنحهم عوضاً عن مفاتيح بيوتهم الأندلسية مفاتيح البيوت الفلسطينية التي هُجّر أهلها!

&

هل يمكن للعزف على هذا الوتر التراجيدي، من المأساة اليهودية من قبل والمأساة الفلسطينية من بعد، أن يخدم ما يسمى أدب القضية؟

&

أم أن هذا سيكون تعاطفاً أدبياً مفرّغاً من محتواه العملي، باعتبار أن صيرورة التحرك والتنقّل البشري في هذه الحياة قائم منذ القدم على تبادل، أو تناهب، مفاتيح البيوت والمدن بين القوى المتعاقبة، باسم الدين حيناً وباسم القومية حيناً أو بخلطة من هذا وذاك أحياناً أخرى؟!
&