يوسف مكي

ليس أمام حكومة العبادي سوى الاستجابة لنداء العراقيين ومحاسبة الفاسدين، ومنعهم من مغادرة البلاد، وتأكيد استقلال وعروبة العراق، بعيدا عن الاستتباع للقوى الإقليمية والنزعات الطائفية

&


العراق كان البوابة الرئيسية التي انطلق منها مشروع الشرق الأوسط الجديد، وهو المختبر الأول للفوضى الخلاقة. وعندما طرح الاستراتيجيون الأميركيون الانتهاء من تركة سايكس- بيكو، وإعادة تركيب المنطقة، وفقا للهويات الطائفية والإثنية، منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي، اعتبر العراق المحطة الأولى لتحقيق ذلك. وحينها جرى الحديث عن بلاد السواد، باعتباره منطقة رخوة، تضم تشكيلات فسيفسائية، غير قابلة للاستمرار.


احتل العراق من قبل الأميركيين في أبريل 2003، واعتبر المحافظون هذه الخطوة مقدمة لإخضاع المنطقة بأسرها. وأن النموذج السياسي الذي هندس له المندوب السامي الأميركي بول برايمرز والقائم على تقسيم العراق حصصا بين الطوائف والأقليات، سيجري تطبيقه على بقية البلدان العربية.


ومنذ السنوات الأولى للاحتلال، بدأ الإفصاح عن النية في تقسيم العراق إلى ثلاث دول، انسجاما مع ترتيبات القسمة. دولة كردية في الشمال، وشيعية في الجنوب، وسنية في ما أطلق عليه بالمثلث السني. ذكر ذلك في مشروع تقدم به نائب الرئيس الأميركي الحالي، الذي كان آنذاك، يرأس الأغلبية في الكونجرس الأميركي. وجرى التصويت على المشروع، من قبل الكونجرس، وصدر قرار غير ملزم به.


وفي أوائل شهر يونيو أعاد النائب ماك ثورنبير رئيس اللجنة العسكرية في مجلس الشيوخ مجددا مطلب تقسيم العراق، حين طالب بإحالة المساعدات الأميركية مباشرة، للأقليات والطوائف بدلا عن تقديمها للحكومة المركزية.
وخلال هذه الأيام، وقف رئيس هيئة الأركان المشتركة، والمنتهية ولايته، الجنرال ريموند أود ييرنو، معلنا أن لا حلّ للمسألة العراقية إلا بتقسيم العراق، ليؤكد الحضور الدائم لفكرة تفتيت العراق في أذهان وأجندة الساسة الأميركيين. وكان تصميم النظام قد تم بهياكل وأدوات تفتيتية، أهم ملامحها الطائفية والفساد، ومنع العراق من التقدم والبناء، والحيلولة دون الخروج من المحنة.


لقد مر العراق بأكثر من 12 سنة عجاف، شرد فيها أكثر من 6 ملايين عراقي خارج بلادهم، خوفا من الاجتثاث والقتل. ومورس بمنهجية القتل على الهوية والإقصاء. نهبت مئات المليارات من الدولارات من الخزينة العراقية، واعتمدت مشاريع وهمية لم تر النور، ذهبت كلها في جيوب الفاسدين والانتهازيين والمنتفعين. وبقي الشعب العراقي من دون أمل أو خلاص.


رفض شعب العراق منذ الوهلة الأولى احتلال بلاده، وأن تكون أرض السواد مختبرا لمشروع الشرق الأوسط الجديد. وبدأ منذ سقوط بغداد مقاومة أسطورية، أكدت الحضور التاريخي والعريق لبلاد النهرين. وأرغم المحتل تحت وطأة المقاومة الشجاعة على الانسحاب.


لكن تركة الاحتلال بقيت جاثمة على رقاب العراقيين، متمثلة في العملية السياسية المقيتة، وفي الفاسدين، الذين قدموا على ظهور دبابات الاحتلال، والذين يتلقون توجيهاتهم من خارج الحدود، وسارقي قوت الشعب ومستقبله، وفي طمس الهوية العربية للعراق، الهوية التي صنعت تاريخه وحضوره وألقه.


لقد برر الأميركيون دعواتهم لتقسيم العراق، باستحالة تعايش السنة والشيعة في العراق، فضلا عن تحقيق المصالحة فيما بينهم. وجاءت الانتفاضة الأخيرة لتؤكد زيف وعقم هذا التضليل. فالتهميش والتجويع في هذا البلد الغني بثرواته، والذي يتميز بعبور نهرين كبيرين فوق أرضه، لم يستثن أحدا، ولم يميز بين شيعي وسني وكردي. أدرك العراقيون بحسهم العميق، أن المعاناة ليست حصرا في جماعة أو فئة أو مذهب أو منطقة، وإنما كانت معاناة شاملة لكل العراقيين بكل مكوناتهم، تماما كما ضمت قائمة الفاسدين؛ مسؤولين من كل ألوان الطيف العراقي.


في هذه الأيام ينتخي العراقيون جميعا، بعيدا عن لغة الطوائف، ومن الجنوب... من قلب النخيل في البصرة والكوت والعمارة، لتتواصل انتفاضة العراق، في كل مدنه وبلداته، رفضا للطائفية والتبعية والفساد والتقسيم والمحاصصة. لتكون البديل عنها المواطنة الشاملة، والاستقلال الحقيقي والنزاهة ووحدة العراق شعبا وأرضا.


يقدم العراقيون برفضهم مشاريع التقسيم، التي يعلن عنها المسؤولون الأمريكيون بين فينة وأخرى الجواب الحاسم.. لا لتقسيم العراق، ونعم لوحدته. وتعبر كل الأطياف العراقية مجددا عن التآخي والوحدة. ويدرك العراقيون أن محاسبة الجناة، والقصاص منهم هي أول الطريق نحو بناء العراق الجديد الموحد، ودولته الحديثة. سوف ينتهي عراق الأحقاد والطوائف، ويبقى العراق العربي، الذي يقف في خندق واحد مع أشقائه العرب، ويكون عمقه الاستراتيجي ناطقا بالعربية.


ليس أمام حكومة العبادي، سوى الاستجابة لنداء العراقيين، ومحاسبة الفاسدين، ومنعهم من مغادرة البلاد، ووضع كل مسؤول تحت طائلة المحاسبة. وتأكيد استقلال وعروبة العراق، بعيدا عن الاستتباع للقوى الإقليمية والنزعات الطائفية. وما أعلن من خطوات إصلاحية حتى الآن، يبقى أقل بكثير من حاجة العراقيين.


وفي البدء، فإن ما يحتاجه العراقيون الآن هو الكهرباء والسكن الصالح، والعلاج المجاني، وتأمين التعليم، والنهوض بالبلاد من كبواتها. وذلك لن يتم إلا بإلغاء العملية السياسية التي قسمت البلاد بين الطوائف والأقليات.
لن تتوقف انتفاضة الشعب العراقي الباسل إلا بتحقيق أهدافه في القضاء على الفساد وعودته إلى مناخه العربي. وقد أكد بكل طوائفه، وفي القلب منهم النشامى من أبناء الجنوب، انتصاره للهوية الوطنية الجامعة، الهوية العراقية، وأنه عابر للهويات الصغيرة.


وقريبا جدا سينتهي المد الشعوبي الحاقد على العراق، وسيعود لأبي جعفر المنصور مجددا حضوره، وسترتفع رايته المجيدة.
&