خليل حسين

ليست سابقة أن تنزل مختلف شرائح الشعب اللبناني إلى الشارع للتعبير عن مطلب ما، أو حتى إصلاح النظام وصولاً إلى إسقاطه، فتاريخ لبنان المطلبي يعج بمثل تلك الحالات، إلا أن ما جرى مؤخراً يرسم علامات فارقة تتميز عن غيرها من التحركات المطلبية السابقة.

هذه المرة، انطلقت الاحتجاجات الشعبية من دون خلفية سياسية ، كما اعتاد عليها اللبنانيون سابقاً، وحجبت المطالب الشعبية المحقة، (وهي بالمناسبة مطالب تعتبر سخيفة في الأنظمة التي تحترم نفسها وتحترم الحد الأدنى لحقوق الإنسان)، كافة التلاوين السياسية من قوى 8 و14 آذار، فتخطت منظميها من تجمعات أهلية، لتكتسي طابعاً وطنياً ناقماً على سلطة سياسية حكمت البلاد منذ ربع قرن، ولم تقدم لشعبها سوى الفساد وإغراق البلاد بالانقسامات الطائفية والمذهبية، علاوة على واقع اقتصادي اجتماعي مزرٍ.

والمفارقة، أن الشعب اللبناني سجّل سبقاً في حراكات احتجاجية، انطلقت قبل سنوات من انطلاق الحراك العربي في بعض بلدانه (أي منذ العام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري)، وظل في الشارع سنوات، حتى ظهرت «تسوية الدوحة»، التي كانت بمثابة تأجيل للانفجار ومحاولة لشراء وقت ضائع، طالما بحث عنه سياسيو لبنان وزعاماته في مختلف الحقب السياسية التي حكموا بها البلاد عنوة أو تستراً بالديمقراطية.

اليوم ارتدى التحرك مطالب حياتية عادية ومحقة، فهل هناك شعب في الألفية الثالثة، يطالب بالكهرباء والماء، أو بإزالة النفايات من الشوارع ، أي الحق في النظافة والصحة العامة؟ وهل تعتبر هذه المطالب تعجيزية أو من خارج نطاق صلاحيات الدولة ؟ وهل يُتخيل للبعض أن الشعب اللبناني بات بسيطاً لهذه الدرجة في مطالبه؟&

إنها فعلا مفارقة.. تحتمل طرح العديد من الأسئلة، ثمة سوابق جرت في العديد من دول العالم، وليس بالضرورة تشبيهاً بالحراك العربي الذي ذهب باتجاهات أخرى، فهل الحراك الحالي في لبنان، قادر على التحرك بديناميات لبنانية بحتة؟ أم هو بحاجة لمنشطات خارجية لدفعه باتجاهات أخرى؟ بكلام آخر، هل الشعب اللبناني الغارق في تفاصيل طائفية ومذهبية وهموم اجتماعية واقتصادية لا حصر لها، قادر على التحرك للنهاية بمعزل عن المحفزات الخارجية؟ وهل أن لبنان يراد له الانفجار عبر هذه الاحتجاجات، أم أنه ما زال تحت تغطية إقليمية ودولية تمنع عنه الانفجار الكبير، وبالتالي هل هذا الحراك لا أفق له في المدى المنظور؟ وبمعنى أكثر وضوحاً، هل أن المطلوب من لبنان في هذه المرحلة بالذات، أن يكون مرتعاً لتبادل الأدوار والضغوط بانتظار التسويات الإقليمية الكبيرة؟

أسئلة كبيرة ومن العيار الثقيل تطرح ، ومن الصعب الإجابة عنها في ظل تداخل وتشابك العديد من الاعتبارات الداخلية والخارجية، التي كانت لها الكلمة الفصل في حسم أي موقف أو خيار أو خطوة كان لبنان مجبراً على اتخاذه.

ثمة شروط ضرورية ولازمة لإنجاح أي تحرك مطلبي في أي دولة أو أي نظام، ومن بينها، وجود قوى منظمة قادرة على تسويق نفسها في مجتمعها، إضافة إلى مشروعية مطالبها، وبالتأكيد تنطبق بعض هذه المسائل على الواقع اللبناني، شعباً وتيارات وقوى مجتمعية منظمة، لكن في المقابل، ليس ثمة قوة منظمة قادرة على إنتاج خرائط طرق، تستطيع من خلالها إيصال مطالب ناسها وشعبها إلى النهاية المرجوة، خاصة أن الكثير من التجارب اللبنانية السابقة باءت بالفشل، كما أن الكثير من نظيراتها العربية باءت بالفشل أيضا، فأكلت الثورات أبناءها، وضاع حراكها في أتون حروب أهلية، دمرت الدول بمؤسساتها ومجتمعاتها، وانتشر التطرف والإرهاب باسم الدين، حتى باتت الشعوب تترحم على الماضي، وتقارن بين السيئ والأسوأ.&

ما جرى ويجري في لبنان اليوم، مبرر بكل المقاييس، فالشعب اللبناني من حقه المطالبة بنظام يحمي أبسط حقوقه التي حصل عليها أي شعب في مجاهل إفريقيا، كما أيضا من حقه عدم التعرّض لسرقة حراكه وأخذه إلى أماكن أخرى، كما حصل في العديد من البلدان العربية، فالشعب اللبناني بكل مشاربه وشرائحه، مطالب بالوعي واليقظة لكي يسلك الطريق الصحيح، كي لا يقع بما وقع به غيره، صحيح أن مطالبه محقة وأكثر من ضرورة ليتصف عيشه بالكرامة، لكن الصحيح أيضا أن هناك متخصصين في سرقة الثورات دائماً، وهم غالباً ما ينجحون بذلك، فهل اللبنانيون قادرون على حماية حراكهم من سارقي الداخل والخارج؟ إن التجارب السابقة في لبنان وخارجه ليست بمبشرة!