محمد عارف

«قَشَقْشي» أعلن بالإنترنت خريطة لتهريب البشر، «مضمونة وجديدة»، استخدمها في تهريب «أكثر من وجبة». و«قشقشي» تعني باللهجة العراقية «مُهَرِّب»، وخريطة تهريبه تبدأ بمدريد. «تأخذ مترو إلى سنتر المدينة، بعدها باص إلى مدينة غرناطة، ومن هناك استلمك وأعبرك البحر على زورق مطاط 1200 دولار، أو يخت سياحي 2400 دولار. بعد العبور تسلم نفسك بالمغرب، ويزودونك بوثيقة طرد، فتأخذ تاكسي للحدود الجزائرية، ومنها قطار إلى سيناء بمصر، وبعدها تاكسي إلى الحدود الأردنية، وباص يعبرك طريبيل، وتكمل بالبايسكل، إلى موقف سيارات بغداد، وتسلِّم نفسك بمنطقة العلاوي. يستجوبوك الأمن، ويحولوك إلى كمب الزوراء. ويخصصوا لك راتب 500 دولار، وسكنا، وإقامة، ويتضاعف راتبك بعد سنة، وتأخذ الإقامة الدائمة، ويحق لك لم شمل العائلة. ومدة الحصول على الجنسية ما بين 5 و7 سنوات».

وإذا كانت هذه نكتة عراقية، فحشود المهاجرين السوريين والعراقيين العابرين مضايق البحر المتوسط مهرجان. الأصابع مرفوعة بعلامة النصر، وقبلات هوائية ترسلها نساء محجبات عبر مصوري الفضائيات، ومُسنون بعكازاتهم، يركلهم حراس الحدود، ووجوه مدماة، وآباء يهرولون حاملين أطفالهم الرُضّع عبر دخان القنابل الغازية، ويقتحمون القطارات من نوافذها، وينامون على قارعة الطرق، وفي باحات المحطات. وبعض السوريين كالسياح يقفزون من زوارق مطاطية بقمصان رياضية، وسراويل قصيرة، يرسلون صورهم بالموبايل إلى أهلهم في الوطن، «وصلنا والحمد لله»، وينظمون مواعيد مع رفاق سبقوهم إلى اليونان، ومقدونيا، وصربيا، وهنغاريا.

وتنظيم «داعش» ليس الفاعل الأول في عملية تهجير الملايين، بل سبقه أكثر من ثلاثين دولة اجتاحت العراق، وأفغانستان، ودَمّرت سوريا، وليبيا، ونهبت فلسطين بالكامل. وإذا وُزِّع اللاجئون حسب المسؤولين عن كارثة الهجرة العالمية، فنصيب الولايات المتحدة الأعظم، تتبعها بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وهولندا، والدنمارك، وبولندا، وهنغاريا، ودول التحالف الأخرى في الحروب التي شَرّدت 60 مليون شخص، نصفهم أطفال، و11 مليون منهم نازحون داخل بلدانهم، حسب تقرير «مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين». وهنغاريا التي كانت مركز تدريب قوات غزو العراق عام 2003، تنشئ حالياً أسواراً حديدية لحماية أوروبا من 14 مليون نازح العام الماضي، معظمهم لا يستطيع العودة إلى ديارهم، ولا الاستقرار الدائم في أي مكان.

حرب المهاجرين العالمية هي «الكيد المرتد» حسب تعريف الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» لظاهرة «ارتداد التقنيات والأسلحة السياسية والقانونية الكولونيالية على الدول الأوروبية التي أرسلتها إلى قارات أخرى، وارتدّت على آليات السلطة في الغرب، وأجهزتها، ومؤسساتها، وتقنياتها». وأعاد الغرب بسرعة «تصميم عقيدته العسكرية ماسحاً بشكل دراماتيكي الفرز القانوني والإجرائي بين عمليات الشرطة، والمخابرات، والجيش، والفروق بين الحرب والسلم». ذكر ذلك الأكاديمي البريطاني «ستيفن غراهام» في كتابه «مدن تحت الحصار»، وقال إن الهجمات الإرهابية للجماعات والدول «تُظهر أن الحرب غير المتماثلة وغير النظامية، هي محرك العنف السياسي عبر الفضاءات الدولية. فالمزيد من الحروب المعاصرة تجري في الأسواق المركزية، والأبراج السكنية، والقنوات تحت الأرضية، والضواحي الصناعية، وليس في الميادين المكشوفة، والأدغال، والصحارى».

ودخلت حرب المهاجرين العالمية مرحلة جديدة في الولايات المتحدة، التي أنشأها المهاجرون. إهانات مرشح الرئاسة رونالد ترامب للمهاجرين المكسيكيين، ومطالبته بإعادة 11 مليون مكسيكي إلى بلدهم، ليست دعاية انتخابية، بل عقيدة «صراع الثقافات»، التي وسّعها «صامؤيل هونغتن» في كتابه الجديد «من نحن: تحدّي الهوية القومية الأميركية»، وفيه ذكر أن «نسيج السلطة الأميركية وهويتها القومية مهددين، ليس فقط بالإرهاب الإسلامي العالمي، بل بغير البيض، والجماعات الأميركية اللاتينية بالذات، التي تستعمر، وتتحكم بمدن الولايات المتحدة»!