"كائنات العزلة" لعبد القادر الجنابي .. مديحٌ لروعة أن تكون وحيداً

&محمد أبي سمرا

&
يخلط عبد القادر الجنابي الترجمة والتأليف باختياره منتخبات نثرية وشعرية لكتاب وشعراء كثيرين، في الفرنسية والانكليزية والعربية، فيضع كتاباً في مديح العزلة وأحوالها ومعانيها ودلالاتها، عنوانه "كائنات العزلة – أنطولوجيا شعرية شخصية"، من منشورات "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" البيروتية، 2015. على صفحة الغلاف الأخيرة تعريف بالكتاب: "إنه ديوان جديد في بابه": "جوقة شاعرية (...) حيث عزلة الشعر والحلم تنتشلنا من وحدتنا المفجعة".

يفتتح الجنابي كتابه هذا معترفاً نثراً: "مرت أيام لم أرَ فيها أحداً، لم أتحدث مع أحدٍ، ولا حتى مع نفسي". لا يشير الى أن ما يكتبه مقدمة. وبعد صفحاتٍ ثلاثٍ نثرية، ينتقل فجأة الى شكل شعري لكتابته، يستمر حتى الصفحة العشرين. نقرأ في الصفحة 12: "لا أريدُ الوحدة،/ تابوتاً يؤويني/ بل العزلة،/ حيث لا رابط يغويني".


شبهة الإنسان الميت


هذا التمييز بين العزلة والوحدة يمثّل هاجساً أساسياً في ما يقتطفه الجنابي وينتخبه لكتّاب وشعراء كثيرين، بعد أن يكتب نصاً نثرياً يتقصى فيه مفهومه للعزلة التي "ما إن تهبُّ مروحةٌ يدوية" في غابتها – على ما يكتب أندره بروتون – "حتى نتوهم أننا في فردوس". يتساءل الجنابي: "من هو أجدر بالعزلة من الشاعر؟"، ثم ينقل عن ريلكه أن الشاعر هو رجلها وابنها، وهي التي "تصقلُ الموهبة"، وفقاً لغوته. أما بابلو نيرودا فيرى أن "الشاعر، لابساً الحداد، يكتب بيد مرتجفة وحيداً كلياً". والعزلة لتوماس مان "تولّدُ فينا الأصيل، والجمال غير المألوف". وهذا تشارلز بوكوفسكي يوهنه "النهار الذي يمرُّ من دون عزلة". حتى "الشاعر الجماهيري والشعبوي"، يضيف صاحب الأنطولوجيا، يحتاج الى عزلة كافكوية: "ليس كمتنسكٍ، وإنما أشبه بإنسان ميت". و"من دونها"، على ما تضيف مارغريت دوراس "لا نعمل أي شيء... لا نرى أي شيء". وهي، وفقاً لاوكتافيو باث، "التركيز وتنقية الشعور بالإحساسات الداخلية". وإذ كان قد ورد في حديث نبوي أن "ما من أحد إلا وله شيطان"، فإن الجنابي يضيف أن "شيطان الشاعر هو عزلته". أما "كايميلي ديكنسن التي حبست نفسها في غرفة وهي في الثلاثين وبقيت حبيسة فيها حتى مماتها، فلم تترك ورقة واحدة تخرج من غرفتها المغلقة" التي اكتُشفت فيها "ألفا قصيدة، وألف رسالة".

العزلة والجموع


تعريفات العزلة التي "روّجها لاهوتيون، حزبيون، اجتماعيون، إصلاحيون"، يرى الجنابي أنها ساعدت في ايجاد "تبرير نظري للسيطرة على القطيع والحدّ من حرية الفرد، وفي الحقيقة، من حرية الجموع". لكن في مقابلة طويلة نشرتها معه مجلة "مواقف" في سبعينات القرن الماضي، كان المفكر السوري الراحل أنطون مقدسي، قد قال ان البشر في الأزمنة الحديثة يتمتمون أهواءهم ورغباتهم الشخصية، فيما هم يمشون وسط الجموع في المدن كلها، في دمشق وبيروت، كما في باريس ونيويورك!
أما المفكر الالماني الياس كانيتي في كتابه "الحشد والسلطان"، فذهب مذهباً آخر في تصنيفه أنواع الحشود، وفقاً للشعوب والأمم والحقب والأزمنة الاجتماعية – السياسية. غير أن الجنابي يرى أن المرء "في العزلة فقط يثبت أن الحرية أمر لا يمكن استئصاله" ضداً لـ"الجماعية العبيدية ولمّ الشمل القبائلي". ولفريدريك نيتشه "نصيحة" في هذا المجال: "سارع الى عزلتك، يا صديقي".

بين العزلة والوحدة


لكن هذه النصيحة النيتشوية لا تلقى صدى لدى الشعراء والكتاب العرب الذين "يطيب لهم أن يُنعتوا بالكبار، العظماء"، على ما يلاحظ صاحب أنطولوجيا العزلة.
ذلك لأنهم "احتفظوا دائماً بنافذة صغيرة على ميدان العوام، وظلّ الإحساس بالمنافسة هو محفّزهم على الكتابة. وما شعورهم بالوحدة، الوحشة، سوى علامة على الشعور بالحسد والغيرة". لذا يعيشون عزلة "سببها جرح نرجسي أو إحساس بعظمة لم تكافأ".
انطلاقاً من هذا التصنيف، لا يورد الجنابي أي مقتطف في منتخباته للكتّاب والشعراء العرب المعتبرين كبارا أو عظاماً، سوى جملة واحدة لمحمود درويش. وهو يعتمد توضيح الفيلسوف بول تيليش لتمييز الفرق بين العزلة والوحدة: فالوحدة تعبير عن "الألم الناتج من (كونك) وحيداً". أما "العزلة (فهي) للتعبير عن روعة أن تكون وحيداً". على هذا الاساس ليست هذه الانطولوجيا "الصغيرة" تجميعاً لـ"نصوص عن المشتقات السلبية للعزلة (الوحشة، الوحدة، الرثاء، الضياع، القلق، المنفى... الخ)"، بل أرادها صاحبها "تقاسيم شعرية محضة في ميلاد القصيدة في الشاعر، هذا الكائن الذي يخترق الحشد بعزلته مبتهجاً بما تمنحه هذه العزلة من أنا استبصارية".

قمر بورخيس


قد يكون أجمل مقتطف في الكتاب للشاعر خورخي لويس بورخيس: "كم من عزلة في هذا الذهب./ قمر الليالي ليس القمر عينه/ الذي شاهده آدم الأول./ فقد ملأتْه قرون السهر الإنساني الطويلة/ بنحيب قديم. أنظري فيه. فهو مرآتك".

مرايا كفافي


لكن قسطنطين كافافي، مبهر أيضا في مقتطف شعري له: "الثانية عشرة والنصف. كم سريعاً مرّ الوقت/ منذ أن أشعلتُ مصباحي في التاسعة(...)/ ظهرَ لي خيال جسدي الغضّ وجعلني استرجع/ عطور الغرف المغلقة/ ملذات سالفة(...)/ شوارع يصعب الآن التعرف عليها،/ ملاهي أُغلقت كانت تضجّ بالحركة،/ ومسارح ومقاهي كان لها وجود في ما مضى./ وأيضاً جاءني خيال جسدي الغضّ/ بذكريات مؤلمة:/ حداد العائلة، فراقات، وأناس أعزاء،/ وبمشاعر الأقارب، مشاعر الموتى/ التي لم تُقدّر حق التقدير.../ الثانية عشرة والنصف. كم سريعاً مرّ الوقت./ الثانية عشرة والنصف. كم سريعاً مرت السنوات".

وحدة سنغور


اما ليوبولد سنغور، فيترجم له الجنابي قصيدة، كأنها مستلّة من مشهد على طرق مقفرة في فيلم من أفلام الغرب الاميركي: "أنا وحيد في السهل/ وفي الليل./ أنا أعمدة التلغراف/ الممتدة طوال الطرق/ المقفرة".

سيادة الرعاع


أخيراً في مقتطف غير موقّع، وقد يكون كتبه الجنابي نفسه، وتركه مغفلاً، نقرأ: "حين يتسيّد الرعاع المشهد، تصبح حياتك في خطر. لا إنقاذ لها إلّا بالثنائي، وليس بالتداني. أدخل عزلتك، واقفل بابها باحكام".
هل هذه حالنا اليوم: سيادة الرعاع؟