علي سالم

لا يعترف المؤرخ بالنكتة كمصدر، مع صدقها الذي لا شك فيه. هو يبحث فقط عن وثائق صنعها البشر. وعلى الرغم من اهتمامه بحياتهم اليومية كما سجلها القدامى وما تحمله من بصمات، فإنه لا يبحث عن النكتة في زمن ما لصعوبة ذلك، وأيضًا لذلك المرض الأبدي عند المثقفين الذي يصور لهم أن النكتة نشاط عقلي غير جاد. وبما أني لست مؤرخًا ولست مثقفًا بما فيه الكفاية. لذلك فأنا أعتمد النكتة بتركيزها الشديد وشمولها، مصدرًا يفوق في صدقه كل مستندات الجنس البشري.


في بداية خمسينات القرن الماضي كنت أعيش في دمياط. لذلك ما زلت أحتفظ في ذاكرتي بالنكات التي قيلت عن ثورة يوليو 1952 في ذلك الوقت. وأرجو ألا تكون صادمة للمؤرخ الناصري بالتحديد وربما لبقية المؤرخين الذين يتصورون أن المصريين قابلوا هذه الثورة بالرقص والزغاريد في أيامها الأولى.


حدثت خناقة في أوتوبيس، عشرات الركاب انهالوا ضربًا على عسكري جيش، استطاعت الشرطة القبض عليهم وصحبتهم جميعًا إلى نقطة الشرطة القريبة. وأمام الضابط الذي تولى كتابة المحضر اتضح أنهم يتهمون العسكري بأنه تحرش بزوجة أحدهم (لم تكن كلمة التحرش قد اخترعت بعد والكلمة المعتمدة كانت عاكس ويعاكس) وكان السؤال الموجه لكل شخص: ولماذا اشتركت في ضربه؟
اتضح أنهم كانوا جميعًا أقارب للسيدة، فيما عدا شخص واحد قال إنه ليس قريبًا لها ولا صلة له بالضاربين.
- ولماذا اشتركت في ضربه إذن؟
فأجاب: أصل أنا لقيتهم بيضربوا عسكري جيش فقلت الظاهر الثورة خلصت فرحت نازل فيه ضرب.


كان زعيم الثورة في سنوات البداية هو محمد نجيب. أشهد أن الناس كانت تحبه بدرجة مذهلة، أحد الحلاقين في الشارع التجاري في دمياط كتب لافتة جديدة هي «حلاق محمد نجيب» كان لا يطيق أن يسمع كلمة واحدة تنتقد محمد نجيب. وانقلب عبد الناصر على نجيب وبدأ الحلاق يشعر بأن حياته مهددة. لذلك استدعى الخطاط بسرعة وأجرى تعديلا في اللافتة فتحولت إلى «حلاق محمد نجيب الشهير بجمال عبد الناصر».. ميزة هذه النكتة أنها تؤرخ بدقة لبداية عصر الخوف والنفاق. في زيارة قام بها عبد الناصر وبعض زملائه لمصنع نسيج هناك. سأل أحد الأسطوات: إيه رأيك في الثورة؟
فأجاب: حلوة قوي يا سيادة الريس.. ده أنا باطلب من ربنا يعمل لنا واحدة كمان.


وماذا عن بقية الثورات؟ ما هي النكات التي أنتجتها ثورة الربيع العربي؟ بمعنى أدق ما هي النكات التي أطلقها اللاوعي المصري على ثورة الربيع؟.. لا أعرف.. تعرف أنت؟