أحمد الغز

لا أعتقد أنه من الممكن تحديد ما يحدث الآن في لبنان سوى أننا دخلنا في حال من التخبط والأزمات الكثيرة والمتراكمة منذ 10 سنوات على الأقل، والتي تحركت كلها بفعل فاعل وفي وقت واحد

&


استعاد لبنان مكانته في مقدمات نشرات الأخبار العربية والدولية بعد غياب دام سنوات تقدمت فيها على لبنان الساحات الملتهبة في كل من سورية والعراق واليمن وليبيا، حيث إن إيران والنظام السوري ومعهم عراق المالكي كانوا يستخدمون لبنان كحديقة خلفية لعائلاتهم وإعلامهم واتصالاتهم وأيضاً لثرواتهم المنهوبة من العراق وسورية.


عاش لبنان خلال تلك السنوات شيئاً من الجمود وليس الاستقرار، لأن إيران وسورية كانتا قد حرّكتا العديد من البؤر الأمنية، وخصوصاً خلال فترة حكومة نجيب ميقاتي والتي كانت إيرانية وسورية بامتياز، فاشتعلت الاشتباكات في طرابلس مدينة رئيس الحكومة ميقاتي، وأيضاً كانت أزمة صيدا والشيخ الأسير الذي لقيَ تشجيعاً من حكومة نجيب ميقاتي، وكان المقصود من هذه الأزمات هو المزيد من الاضطراب في المدن الكبرى، بيروت وطرابلس وصيدا، من أجل استقرار حكومة إيران في لبنان.


جاءت استقالة حكومة نجيب ميقاتي الإيرانية نتيجة لتعاظم الصراع في سورية، وتورّط حزب الله في الميدان السوري، ونزوح ما يزيد على المليون سوري إلى لبنان، مما جعل الإيرانيين يعيدون حساباتهم ويتخوفون من أن ينفجر لبنان بين أيديهم بسبب الانقسام الحاد بين اللبنانيين المؤيدين للنظام السوري والمؤيدين للثورة السورية، فكانت استقالة حكومة ميقاتي عملية منظمة ودقيقة شارك في تحديد بديلها بشكل دقيق كل من حلفاء حكومة العزل السياسي التي ترأسها ميقاتي على أن تكون الحكومة البديلة بقيادة تمام سلام.


استمرت حكومة ميقاتي بتصريف الأعمال ما يقارب السنة بعد استقالتها دون أن يستطيع رئيس الحكومة المكلّف تمام سلام من تشكيل حكومة، أي أنّ ميقاتي وإيران استمرا في حكم لبنان سنة بعد الاستقالة تقريبا، وتزامن تشكيل الحكومة الجديدة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، ولذلك كانت تركيبتها ظرفية أي لمدة أشهر قليلة، لأن الدستور يحتم استقالة الحكومة بعد انتخاب رئيس للجمهورية.


بدأت المهلة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية في ٢٥ مارس ولمدة شهرين، انتهت ولاية الرئيس ميشال سليمان في ٢٥ مايو من دون أن ينتخب خلفاً له، وبناء على الدستور اللبناني تؤول صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء رئيساً وأعضاء، وعندها اتضح أنّ الغاية الخفية من تسهيل تشكيل الحكومة كان ملء الفراغ أو الشغور الرئاسي، وهذا ما حصل.


تتالت الأفخاخ التي اعترضت مسار حكومة الشغور الرئاسي، وتورط رئيس الحكومة تمام سلام باعتماد آلية توافقية في اتخاذ القرارات، رغبة منه في التأكيد للشريك المسيحي اللبناني بأنّه لا يريد أن يتصرف بصلاحيات رئيس الجمهورية المسيحي إلا بما يتوافق عليه الجميع، وهذا أمر إيجابي لو أنّ الشغور الرئاسي كان سيكون لمدة قصيرة لا تحتاج فيها البلاد إلى قرارات مصيرية تحتاج إلى التصرف.


استمرت هذه السياسة إلى حدّ بعيد بشكل انسيابي ولو بطيئا ولم تحاول الاقتراب من القضايا الحساسة منعاً للانقسام الحكومي، إلا أن ذلك توقف بشكل مفاجئ بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني مع الخمسة زائد واحد، وبدأ أنصار إيران في الحكومة بالتعطيل وبالذات الفريق المسيحي الحليف لحزب الله وسورية، أي التيار الوطني الحر الذي يرأسه الجنرال ميشال عون، ودخلت الحكومة في عملية اضطراب تصاعدي.


كانت زيارة وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف إلى لبنان بمثابة نقطة فاصلة بين زمنين، إذ تغيرت لغة حزب الله وحلفائه، وتسارعت الترجيحات حول رئاسة الجمهورية وبالتزامن مع انتهاء ولاية قائد الجيش، وهو أحد المرشحين لرئاسة الجمهورية، وعدم التمديد له يخرجه نهائياً من قائمة المرشحين، ووقع ما كان متوقعاً وهو انقسام الحكومة على نفسها ورفض ميشال عون التمديد لقائد الجيش مُرَشِّحاً أحد أصهرته لهذا الموقع.


جاء الحديث عن التسوية في سورية واقتراب الدخول في مرحلة انتقالية لا يكون للأسد مكان فيها، مما جعل الكثيرين من غير المؤيدين للأسد يشعرون بالنشاط والارتياح، فيما أبدى الفريق الآخر الكثير من التوتر بالتهديد والوعيد، وكلّ هذه التطورات جاءت مع افتعال أزمة النفايات التي أنتجها إقفال مطمر الناعمة للنفايات، ما أنتج واقعا اجتماعيا سياسيا غير مسبوق، وعبر كل اللبنانيين عن سخطهم على الحكومة، أي أنها خسرت جمهورها وخصومها، ورافق ذلك اعتقال الشيخ أحمد الأسير، ثم اشتعال النزاع المسلح بين الفلسطينيين في مخيم عين الحلوة في مدينة صيدا بتزامن وترابطٍ مريب.


لا أعتقد أنه من الممكن تحديد ما يحدث الآن في لبنان سوى أننا دخلنا في حال من التخبط بالأزمات الكثيرة والمكثفة والمتراكمة منذ 10 سنوات على الأقل، والتي تحرّكت كلّها بفعل فاعل وفي وقت واحد، وكأنّها كانت في حال من السبات العميق وجاء من أيقظها كلها بقرار واحد، أي أن كل ما كان موجوداً في "الفريزر" قد خرج على الحامي، ولذلك رأينا في الشارع كل قوى الماضي والحاضر بالإضافة إلى قوى جديدة، ورفعت كل الشعارات دفعةً واحدة رغم تعارضها مع بعضها البعض، أي أن لبنان يمر بمرحلة بالغة التعقيد والدقة والخطورة، ومفتوحة على كل الاحتمالات الأمنية والسياسية، ولذلك أنصح بالتروي والتعمق إلى كل المتابعين للأزمة اللبنانية.
&