الياس حرفوش

منذ الانقسام العمودي الحاد في لبنان، بين تكتّلَي 8 و14 آذار، وهما التاريخان المتصلان باغتيال الرئيس رفيق الحريري وبتظاهرة «شكر» السوريين على «وجودهم» المديد، لم تعرف شوارع العاصمة اللبنانية تظاهرات من أي فريق آخر، باستثناء ما شهدته في الأسابيع الأخيرة، من قبل جماعات عرّفت نفسها بشعارات عفوية، من تلك التي يتداولها اللبنانيون، همساً أو علناً، حيثما التقوا، من نوع «بدنا نحاسب»، أو «طلعت ريحتكم».

&

تظاهرات عفوية إذاً، تريد أن تقدم نفسها إلى اللبنانيين على أنها لا ترتبط بزعيم أو بحزب. كل ما تسعى إليه هو إنقاذ البلد من الفساد والفاسدين، الذين يعتبرهم من سمعناهم يتحدثون باسم هذه الجماعات، موجودين في كل الأحزاب والطوائف.

&

ولأنها تظاهرات عفوية، وبالتالي غير مسيّسة، كما تشاء أن تصف نفسها، فإنها مؤهلة للالتفاف الشعبي حولها، من قبل مواطنين، أصابهم اليأس مرة بعد مرة من أي أمل بإصلاح أي شيء، حتى صار شعارهم في وصف وضع لبنان هو المثل الشعبي المعروف «فالج لا تعالج».

&

لكن هذه التظاهرات والتحركات عرضة كذلك للالتفاف الطائفي والحزبي عليها، نتيجة كون شعاراتها قابلة للاستقطاب الشعبي العابر للأحزاب والطوائف. فقد أخذنا نسمع مثلاً قادة حزبيين يصرّحون أن شعارات جماعة «بدنا نحاسب» هي شعاراتهم، وأنهم يعتبرون بالتالي أن من حقهم تجيير التظاهرات لحسابهم. فقد بلغت وقاحة السياسيين في لبنان حداً، في حديثهم الفصيح عن العفّة، لا يصحّ فيه سوى ما قاله ذات يوم الكاتب اللبناني سعيد تقي الدين...

&

غير أن هذه ليست قشرة الموز الوحيدة في طريق هؤلاء الشبان المندفعين بحماس وعن حق لإصلاح بلدهم. خذ مثلاً الانقسام الطائفي العميق وما أدى إليه من تقوقع كل طائفة حول نفسها وحول زعيمها، الذي تعتبره خشبة الخلاص، فيما ترى أن سبب مصائبها كلها يأتي من الطائفة المقابلة. كيف السبيل إلى مشروع وطني واحد في ظل انقسام كهذا، ومن يضمن أن لا تقع تظاهرات هؤلاء الشبان ضحية هذا الفرز الطائفي، وهم أبناء الحرب وبناتها، وضحية ما أدت إليه من تعميق الشروخ في المجتمع اللبناني، بدءاً من البيت وصولاً الى المدرسة والجامعة ومركز العمل، وكل ما يتصل بالحياة اليومية للمواطن. من هنا قلق المشككين في ما ستنتهي إليه التحركات الشعبية، وأملهم بنجاحها في الوقت ذاته.

&

لقد بلغ جدار الفساد في لبنان حداً من الارتفاع يفوق جبال النفايات المرتفعة في الشوارع. إنه فساد منتشر في كل مكان، بدءاً من معظم صغار الموظفين وصولاً الى أعلى المتنفذين والسياسيين، وهو ما يجعل شعار الحرب على الفساد مجرد شعار فارغ إذا لم يبدأ الإصلاح من حيث يجب أن يبدأ، أي من تحمّل كل لبناني مسؤوليته الوطنية أولاً قبل إلقاء هذه المسؤولية على الآخرين.

&

وفوق هذا وذاك، هناك الصعوبات في وجه التحقيق العملي للشعارات التي يرفعها هؤلاء الإصلاحيون الشباب. فعندما تبدأ المطالب من ضرورة استقالة الحكومة وحلّ المجلس النيابي، في ظل الفراغ الدستوري القائم في البلد نتيجة إقفال الطريق في وجه انتخاب رئيس جديد للبلاد، فإنها سوف تنتهي بالضرورة إلى حالة شلل كاملة للمؤسسات، لن يتمكن أن يحلّ مكانها في الظرف الحاضر سوى الفريق الأقوى على الساحة، تنظيماً وتسلّحاً وهيمنة على القرار الأمني والسياسي. وكلنا نعلم من هو هذا الفريق، المسؤول عن تعطيل العملية الدستورية وإيصال البلد إلى المأزق الحالي.
&