عادل درويش

عطست الصين فأصيبت أسواق العالم بالتهاب رئوي. فقبل ثلاثة أسابيع خفضت الصين سعر العملة مرتين في يوم ونصف اليوم، في محاولة لتقوية سوق تصدير منتجاتها.


المفاجأة، التي تبعها تخفيض الصين لسعر فائدة الإقراض، أربكت حسابات بنك الاحتياط الفيدرالي وبنك إنجلترا وقتما كانا يعدان لزيادة تدريجية في أسعار الفائدة بنصف في المائة، وهي الأدنى تاريخيا لأكثر من خمس سنوات متتالية. تخفيض أو رفع البنك المركزي لسعر الفائدة في اقتصاديات السوق الحرة هو قرار مستقل عن السياسة يخضع لحسابات دقيقة، والغرض تقليل الإنفاق أو زيادته عبر الاقتراض من البنوك لترويج الاستهلاك المحلي أو للاستثمار في مشاريع نمو (ليست مشاريع الفيل الأبيض لـ«الفشخرة» في الأنظمة الشمولية وبلدان صغيرة الحجم والشأن عالية الضوضاء).


رفع سعر الفائدة وسيلة لكبح جماح معدلات التضخم بتقليل الإنفاق فتنخفض أثمان السلع. وعندما يعم الخمول السوق ويخشى البنك المركزي من الكساد وارتفاع البطالة يخفض سعر الفائدة لتحفيز المستهلك للإنفاق لترويج السوق والمستثمر للاقتراض للتوسع، فتُخلق فرص عمل تزيد من حركة السوق والإنفاق، ويرتفع دخل الخزانة من الضرائب للإنفاق على الخدمات والمرافق.
تخفيض الصين للعملة يؤدي إلى موجة جديدة من المنتجات الصينية تضاف إلى الفيضان الذي يغرق أسواق العالم (لا تستطيع الصناعات الغربية منافسة منتجات الصين في الأثمان الرخيصة)؛ وإذا تصادف ذلك مع بداية رفع أسعار الفائدة وبالتالي ارتفاع أسعار الدولار والإسترليني فسيصاب الميزانان التجاريان للعملتين بالخلل لصالح الصين، مما يؤدي لركود الاقتصاد. والأغلب سيُرجأ رفع سعري الفائدة في بنك إنجلترا والاحتياط الفيدرالي إلى ما بعد منتصف 2016.
سبب الارتباك غياب اتساق معادلة الانفتاح الرأسمالي الذي انتهجته الصين مع إدارة الحزب الشيوعي للاقتصاد بعقلية النظام السياسي الشمولي المقيد لحرية الفرد في الاختيار، وهي ضرورية لنمو سوق الاستهلاك المحلي.
في حالة الإسترليني مثلاً اللجنة المالية لبنك إنجلترا (مستقلة عن الحكومة التي لا تستطيع أو تحاول التأثير على قرارها) تحدد سعر الفائدة نقصًا أو زيادة بتصويت أعضائها بعد دراستهم لحركة السوق وأثمان السلع والعملات العالمية.
على هذه الصفحات كررنا النصيحة للإصلاحيين في بلدان التغيير الثوري لعام 2011 (شبه النجاح في مصر وتونس والباقي فلتلطف الأقدار بهم)، بأن التطور السياسي نحو الديمقراطية والمجتمع الأفضل يسير على قدمين بساقين لا واحدة: الأولى الديمقراطية الدستورية بالحرية السياسية وحكم القانون؛ والثانية اقتصاد حرية السوق المفتوحة وحركة المال بلا تدخل أو قيود سياسة وآيديولوجية من الحكومة. وبلا سلامة الساقين سيظل المجتمع يقفز في مكانه متوهمًا السير، أو يقع إذا سحب عكاز القروض والمنح وتبرعات الشعب أو البلدان الصديقة، الذي يسند الساق الثانية المشلولة.


والنموذج الذي أقدمه، لمصر والبلدان العربية في مسيرة الإصلاح، عن حتمية الوقوع بالسير على ساق واحدة، وهو ما أصاب اقتصاد الصين، رغم امتلاكها أكبر فائض عرفه التاريخ من العملة الصعبة الخارجية، ونموًا بمعدلات شبه إعجازية مقارنة بمعدلات النظم الرأسمالية الحقيقية. فمثلاً نمو بنسبة نصف أو واحد في المائة يؤدي لتدفق شلالات الخير في المجتمعات السبع الصناعية الكبرى (أميركا، وبريطانيا، وألمانيا، وكندا، واليابان، وفرنسا، وإيطاليا)، في حين أن الصين في العامين الأخيرين حققت نموًا سبعة في المائة (الرقم الحقيقي أقل من أربعة في المائة بمقياس الأموال التي أنفقت في الاستثمار والعائد منها كضرائب أو أرباح تضخ في السوق المالية مقارنة بعام قبله). ولأن القيادة الشيوعية للصين «قررت» ألا يقل معدل النمو هذه العام عن خمسة في المائة، فقد خفضت سعر فائدة الإقراض لحث المستثمر على الاقتراض.


القرار سياسي لا يقيم اعتبارات لأهم قواعد المال والاقتصاد، وهي آلية السوق الذاتية لتعديل موازينها ارتفاعًا وهبوطًا، كنظرية الأواني المستطرقة المعروفة لتلاميذ المرحلة الابتدائية.
لقرابة 35 عامًا يسير حكام الصين على حبل مشدود ممسكين بعصا توازن تعلقت النظرية الماركسية اللينينية في أحد طرفيها وفي الآخر نظرية رأسمالية حرية السوق. نموذج الحبل المشدود من اختراع وتركيب دينغ زياو بينغ عندما بدأ سياسة شبه الانفتاح بعد رحيل ماوتسي تونغ، وعقب خمس سنوات من انفتاح دبلوماسية البينغ بونغ مع الأميركان.


انفتاح الصين أدى لتحريك أسواق العالم، فزيادة طلب الصين على البترول مثلا أدت لرواج البلدان المصدرة له، وبالتالي زيادة استثماراتها محليًا وإقليميًا وعالميًا بتحريك منتجات التصنيع والاستثمار.


ولثلاثة عقود تحاول بكين الإصلاح البطيء عبر قوى السوق (التي تتحرك بسرعة لا تصلح الطرق الداخلية لها)، لكن تداخلها مع الأسواق العالمية فتح الباب لقوى مؤثرة خارج سيطرة القيادة الشيوعية.


ارتكزت معادلة دينغ للنمو على عناصر العمالة الرخيصة، والتكلفة البسيطة، وسوق تصدير قوية؛ لكنها فقدت أخيرًا الميزة النسبية بارتفاع الأجور (نتيجة النمو السريع) وتناقص التمويل (بتدخل الساسة في سعر الفائدة) وانخفاض طلب الأسواق الخارجية. وغابت سوق استهلاكية محلية للتعويض، لأن التفكير الماركسي اللينيني اعتبر النمو الاستهلاكي الداخلي «عيبًا».


تجلى التناقض في التقلصات المؤلمة للبورصة الصينية (والتي أثرت على بقية العالم) لأن العلاج النموذجي بترك السوق داخليًا وخارجيًا تتحرك بحرية سيخل بتوازن البناء «السياجتماعي» الذي سهل للحزب الشيوعي الانفراد بالحكم.


نماذج مشابهة في دول المنطقة العربية، سواء المتقدمة إنتاجيًا قبل انقلابات الخمسينات، أو ذات الثروات الطبيعية كليبيا والعراق، والتي أهدرت الأنظمة الشمولية مواردها وأفقرت الشعوب بعزل أسواقها عن السوق العالمية.
فالنظرية الماركسية للاشتراكية بتملك الشعب (أو بالأدق ممثليه غير المنتخبين من صفوة الحزب) لوسائل الإنتاج تبدو يوتوبية، لكنها تبدأ بتأميم وسائل إنتاج واستثمارات أسسها الرأسماليون، ولا يوجد نموذج واحد في التاريخ لنظام اشتراكي بدأ من الصفر بلا استثمارات. فمن المستحيل أن تُصلح أرضًا للزراعة، أو تحفر منجمًا للإنتاج، وتبني المعامل لتكرير أو تصنيع ما تستخرجه، وتؤسس وسائل نقل السلعة والتصدير، من دون الاستثمار الذي يحتاج مالاً تقرضه البنوك أو من أصول ثابتة تبيعها خارج البلاد. وهنا نعود لحرية الملكية وحرية الاستثمار بدافع تحقيق الأرباح، أي حركة السوق إنتاجًا واستهلاكًا داخليًا وخارجيًا بحرية سائل الأواني المستطرقة.


وإذا أخفقت القيادة الصينية في الإصلاح والتطور السياسي، واستمرت في فرض القيود على البنوك وحرية السوق وحرمان الفرد من حرية الاختيار، كالعناصر الضرورية للنمو المحلي باستهلاك السوق الداخلية، فإنها ستقضي على روح العطاء في الشعب الصيني (المعروف بصبره وقدراته الإنتاجية وطاقته في العمل)، ولن يجد الناس حافزًا للمشاركة في النمو الاقتصادي المطلوب، ليس فقط داخل حدود الصين بل عالميًا.