أسامة القحطاني

المتشددون يريدون من الآخرين ألا يفهموا كلام الله إلا بواسطة فهمهم هم، وليس باجتهادهم المباشر، وهذا بلا شك طعن في التوحيد ونوع من ممارسة الكهنوت وادعاء قداسة الآراء

&


أسوأ أنواع الاستبداد عندما يبرّر المستبدُّ المتسلطُ تصرفاتِه بأنها دين، ويقمع الناس باسم الدين لمصلحته في الحقيقة! وعند ذكر استخدام الدين بهذه الطريقة؛ فإن أول مثال يتبادر إلى الذهن ممارسة الكنيسة وقساوستها في عصور الظلام الأوروبية، إلى أن تخلت أوروبا عن سيطرة الكنيسة؛ ما أدى إلى الثورة الصناعية وعصر النهضة.


ولكن السؤال هل ممارسة الكنيسة بإلزام الناس بقراراتها موجود في النموذج الإسلامي؟ وما الفرق بين الفتوى لعلماء الإسلام وقرارات الكنيسة؟
الكهنوت لدى المسيحية -بشكل عام ودون تفصيلات- هو كون المسيح عليه السلام غدا الكاهن الأعظم ليكون الواسطة بين الله والبشر، ومن ثمّ؛ فإن رجال الكنيسة يعدون أنفسهم خلفاء للمسيح بتفويض منه، فهم يعبرون عن إرادته التي هي في النهاية عبارة عن إرادة الله في تصورهم! وهذا المفهوم في الإسلام بهذا الشكل يعدّ شركا في العبادة، وجاء في نصوص كثيرة بمحاربته لكونه تأليها وإشراكا للعباد فيما يجب أن يختص الله تعالى وحده به. ولذلك؛ فإن عصر البابوات الأوروبي مليء بمثل هذه المفاهيم، فالبابا يعبر عن إرادة الله، وأحيانا يعتبرونه ظلّ الله في الأرض وهكذا.
ولكن ماذا عن ممارسة المسلمين لهذه الفكرة؟
الحقيقة لا يمكن اختزال التاريخ الإسلامي في ممارسات محددة، ولكن تجدر الإشارة إلى أن التاريخ الإسلامي لم يخلُ من استغلال الدين والفتوى لأجل تقديس النفس وحمايتها، والبعض يمارسها تحت شعار أنه وليّ من أولياء الله، أو المهدية ومؤخرا ما خرج به الخميني بأنه الولي الفقيه الممثل للمعصوم لحين خروجه وهكذا.


ولكن ماذا عن الفتوى في الإسلام؟ عندما يفتي أحدهم في أمر ما، فهل هذا يعني أن تلك الفتوى هي الدين لا غيره؟ وإذا كان نعم هي تعبّر عن الدين والشرع؛ فهل هذا يعني أنه تعبير عن إرادة الله؟ وما الفرق بين هذا وممارسة الكنيسة سابقا؟ وهل المسلم الذي لديه اجتهاده مُجبر على أن يتبع فتوى معينة؟ الجواب في الحقيقة يحتاج إلى مساحة أكبر، ولكن سأحاول إيضاح الموضوع والتنبيه على نقاط خطيرة حوله.


لا تخلو الفتوى من أمرين؛ الأول وهو الفتوى في أمر قطعي جاءت به الشريعة بشكل قطعي، لم يدع مجالا للاجتهاد فيه من خلال نص قطعي في الدلالة والنقل، فإنه في هذه الحالة بلا شك الفتوى تعبر عن الشرع والدين، ولكن قداسة الفتوى هذه من النص القطعي وليست من الفتوى ذاتها، وهناك فرق بين الاثنين.


الثاني؛ أن تكون الفتوى في أمر لم يأتِ الشرع فيه بالقطع واليقين، وهذا ما عليه الغالبية العظمى من الفتاوى والآراء، فعندما يأتي عالم أو مجموعة من العلماء ويفتون في هذا الأمر الاجتهادي برأي معين، فهل هذا الرأي يعبّر عن الدين، بمعنى أن رأي أولئك العلماء يُعبّر عن إرادة الله تعالى؟
الحقيقة أن لدينا إشكالا كبيرا في هذا المعنى، وعندما يقتل الإرهابي المسلمين فإنه لولا قناعته بقداسة آراء محرضيه وأنها هي الحق لا خلافه؛ لما أقدم على قتل عباد الله لمجرد أنهم يخالفونه في آرائهم! وهكذا خوارج الأمس اعتبروا أن مَن لم يتبع رؤيتهم كافر؛ لكونهم يعدون آراء رؤوسهم وقياداتهم تعبر عن الحق وإرادة الله، ومن خالفها فقد كفر! وهي نفس ممارسة داعش اليوم، فهم لا يقتلون الناس إلا بسبب أنهم يعتقدون قداسة آراء مفتيهم، وأنها تعبر عن إرادة الشارع ويجب على الآخرين اتخاذهم وسائط في فهم كلام الله، مهما زعموا أنهم لا يعتقدون ذلك! فهم لم يكفروا الناس إلا بسبب أنهم يعتبرون آراءهم مقدسة ولا تُقبَل أي رؤية غير رؤيتهم -الحقيقة أن العديد من الجماعات المنتسبة للإسلام تمارس نفس الأسلوب ولكن بشكل أقل عنفا-.


ولكن ماذا عما دون ذلك من الفتاوى والآراء التي يختلف الناس عليها اليوم؟ هل فتوى عالم أو حتى الغالبية من العلماء تكون ملزمة للآخرين؟ وهل هي تعبر عن إرادة الشارع؟ وماذا يعني إلزام الآخرين برأي اجتهادي؟
لا شك أن اعتبار الرأي والفتوى حسب هذا الوصف أنه يمثل الشرع والدين يكون مشابها لكهنوت الكنيسة، وهو تقديس لآراء النفس وحمايتها باسم الله والدين، وهو طعن في العبودية بلا شك، وكأن صاحبها يدعي وينسب لآرائه أنها تعبر عن إرادة الله، ولذلك فإن الله تعالى عندما وصف الأحبار والرهبان بأنهم أنداد من دون الله؛ لم يكن بسبب أنهم كانوا يُعبدون من دون الله، وإنما بسبب أنهم كانوا يحرمون الحلال ويحلون الحرام، بنفس الدعوى، فهم ينسبون لأنفسهم وآرائهم أنها الشرع والدين، مع أن الشرع لم يأت فيها بالقطع واليقين، ومع أن الإنسان مهما بلغت رتبته معرض للخطأ والزلل!
وهذا المعنى واضح جدا في حديث علي رضي الله عنه عندما أمره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: "فإن هم أرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا"، وهذا الحديث العظيم يعدّ قاعدة في عدم تقديس آراء النفس، بالرغم من أن المرسول هنا من علماء الصحابة الكبار!
الحقيقة أننا لو راجعنا أغلب الخلاف اليوم وحتى الكثير من القضايا التي يؤجج البعضُ الناسَ عليها فهي لا تعدو ولا تخرج عن هذا الباب للأسف! حتى وصل التقديس للنفس إلى محاربة العلماء في فتاواهم والتنقص منهم بسبب أنهم لم يوافقوا آراء النفس أو التيار، وهذا وبوضوح يقدح في التوحيد والعبادة كون مفاده أن أولئك المخالفين للنفس يجب عليهم أن يفهموا الشرع حسب فهم أولئك الآخرين وليس حسب ما يؤدي إليهم اجتهادهم في كلام الله! وبمعنى آخر؛ فإن الفئة المتشددة هنا تريد من الآخرين أن لا تفهم كلام الله إلا بواسطة فهمهم هم وليس باجتهادهم المباشر، وهذا بلا شك طعن في التوحيد ونوع من ممارسة الكهنوت وادعاء قداسة الآراء!
&