&يسرى عبد الله
&
بعد أربعين عاما من تحالف الفساد والرجعية حصدت مصر الهشيم، ولم يكن هناك أقسى من تكريس العشوائية بوصفها أداة رئيسية فى النظر للحياة والعالم، حيث الولع بتسييد القيم الاستهلاكية، ومحاولة تسليع الثقافة، وعلى تخوم المشهد المصرى المرتبك نمت الجماعات المتشددة فى كنف النظام آنذاك، وتحالفت جملة من الأسباب ليصبح المتأسلمون جزءا من المشهد المصري، وتبدلت مصر تقريبا، وبدأت صيغة جديدة تغزو الدولة المصرية، تستعير نمط الإسلام السلفي، وتتعاطف مع جماعة البنا، ضربا للتيار اليسارى بتنويعاته، وللناصريين خاصة، وازدادت هجرة المصريين إلى بلاد النفط، وعادوا محملين بقيم ماضوية بامتياز، ابنة الصحراء والوعى القديم بالعالم، وربما حملت كتابات جيل السبعينيات فى السرد المصرى رصدا رؤيويا وجماليا لتلك الفترة التى اتسمت بتحولات عاصفة فى بنية المجتمع المصري، بدءا من اتفاقية الفصل بين القوات المصرية والعدو الإسرائيلى ومرورا بقرارات الانفتاح الاقتصادى عام 1974 ووصولا إلى انتفاضة الخبز عام 1977 ثم اتفاقية كامب ديفيد 1978، وشهدنا نصوصا روائية وقصصية بديعة تعبر عن تلك المرحلة فيما بعد، فتراها من منظور أكثر عمقا، فكانت نوبة رجوع لمحمود الورداني، وبشاير اليوسفى لرضا البهات، والجزيرة البيضاء ليوسف أبورية، ، ومقام عطية لسلوى بكر، وليس الآن لهالة البدري، والسبعينيون لفتحى إمبابي، والإسكندرية فى غيمة لإبراهيم عبدالمجيد، وغيرها من النصوص الإبداعية والتى لم يزل يكتبها مبدعون متنوعون تعبيرا عن لحظة سياسية/ ثقافية فارقة فى عمر الأمة المصرية والعربية.

وبدا كل شيء محملا بإرث هزيمة الصيف السابع والستين التى صرح أحد الشيوخ الكبار أنه قد سجد شكرا لله لأنها تمت حتى لا يقال ـ من وجهة نظره ـ أننا قد انتصرنا عبر السلاح الروسي!!، فإلى هذا الحد من العبث كنا قد وصلنا، وبدا استدعاء الميتافيزيقا أملا وغاية، وعرفت الطائفية طريقها إلى مجتمعنا، عبر سنوات السبعينيات واستمر التكريس لها فيما بعد عن جهل تارة، وعن عمد تارة أخري.

وفى الثلاثين عاما الأخيرة تأكدت صيغة التحالف بين الفساد والرجعية، وبدأت التنظيمات الدينية تلعب دورا اجتماعيا فى حياة المصريين، وتجيد توظيفه سياسيا، وامتزج الدينى بالسياسى فى ظل بنية اجتماعية خصبة لاحتضان الميتافيزيقا، فالمؤسسة الدينية الرسمية تفتقر آليات التطوير وأدواته، وتقدم الفقه القديم باعتباره فقها من لدن الحكيم الخبير، وبدأت الجماعات الدينية تعتقد فى أنها تمتلك مراد الله وتحتكره، وتمسك بيديها الحقيقة المطلقة، ووظفت التيارات المتشددة أيضا المؤسسات الدينية غير الرسمية والتى نشأت فى أحضانها للتكريس لمشروعها السياسى ووصلها بالناس، واستغلال حاجاتهم المادية والاجتماعية طمعا فى مقاعد البرلمان تارة، أو الترويج لشعاراتهم الزائفة تارة أخري، هذه الشعارات التى كانت موجتها الأخيرة حاملة عنوانا عبثيا تندر عليه المصريون فيما بعد كثيرا، حينما طرحوا على نحو كاريكاتورى شعار: نحمل الخير لمصر!، وفى الحقيقة ليس ثمة خير ينتظر من هذه الجماعات المتشددة التى تسكن كهوف الماضى وتتلذذ بالعيش فيه.

ولم تكن الحالة التعليمية فى مصر بأحسن من نظيرتها الدينية، فالتعليم قائم على آليات الحفظ والتلقين، والنقابات مخترقة من الجماعات الدينية، والمدراس بينها فروق شاسعة فى مستويات التعليم وأنماطه المختلفة، والتكريس للماضى باعتباره المرجع والملاذ بمثابة الفكرة المركزية فى مناهج ومقررات الوزارة المختلفة، والتغييرات جميعها شكلية، واللحاق بالعالم الجديد مجرد أطروحات نظرية لا تأخذ مسارها العملى فى الحياة المصرية، واستشرى الأمر أيضا فى الجامعات، وخرجت الجامعات المصرية من التصنيف الدولى حتى لو كان مشوبا باعتبارات لا مكان لذكرها الآن، وأضحت التغييرات الديكورية التى لا تمس الجوهر بل تنحو صوب الشكل دوما هى الغالبة والمسيطرة، وفى ذلك كله جاء وزراء وذهب آخرون ولم ينصلح الحال التعليمى أو العلمى ولم يصل بوطننا ولا بناسنا إلى ما نصبو إليه. وأخذت الفعاليات الثقافية ولا تزال طابعا كرنفاليا لايخلق تنويرا حقيقيا ولا يتجه صوب استعادة القوة الناعمة المصرية بوصفها قوة مضافة إلى متن الدولة المصرية، وفى هذه الأجواء جميعها وبعد قيام ثورتين مجيدتين سعى المصريون للتخلص فى إحداهما من الاستبداد السياسي، وللتخلص فى الثانية من الاستبداد الديني/ السياسي، ومن ثم فليس معقولا ولا مقبولا على الإطلاق أن نرى أحزابا تخلط الدينى بالسياسي، وتوظف المقدس للسيطرة على ذهنية العوام وتأجيج مشاعرهم الدينية، ففضلا عن الانتقاص من منزلة المقدس حين يوظف فى اللعبة السياسية المراوغة، فإن ثمة تدليسا على الجماهير تمارسه هذه الأحزاب حين تقدم نفسها بوصفها ظل الله فى الأرض، ويقدم شيوخها ومنظروها أنفسهم بوصفهم وكلاء السماء على الأرض، فيعدون الناس بالجنة الأرضية مثلما وعدوهم بامتلاك مفاتيح الجنة الإلهية!!.ولا تخفى الأحزاب الدينية ولعها بالسلطة، ولا يمكن لنا جميعا أن ننسى أنها قد أوصلت مصر إلى مفترق طرق قبل الثلاثين من يونيو، وذهبت قواعدها الشعبية فيما بعد الثورة للاعتصام فى رابعة والنهضة ووضع الدولة المصرية بناسها وجماهير شعبها أمام مأزق تاريخي، ولولا الإرادة السياسية المصحوبة بظهير شعبى قوى لما خرجنا من تلك الحالة التى وضعتنا فيها الجماعة الإرهابية وحلفاؤها الإجراميون.

وبعد.. إن وجود الاحزاب الدينية طعنة حقيقية فى جسد الثورة وقيمها النبيلة، وضربة قاصمة لفكرة المواطنة التى تعد أساسا للمجتمعات المتقدمة الساعية صوب العدل والكرامة والحرية وإنسانية الإنسان.