فهد عريشي
نترك اللاجئين للموت دون أن نسمع نداءاتهم، وبدلا من أن نبني مشروعا عربيا متكاملا لإيوائهم وتوفير البيئة التي تكفل لهم أبسط حقوقهم، تركناهم للبحر الأبيض المتوسط يتقاذف جثثهم

&


من يصدق أن حكومة النظام السوري هي من أوائل الدول العربية التي بادرت بالتوقيع على اتفاقية حقوق المهاجرين غير الشرعيين، طبعا هي تضمن أنها لن تستقبل مهاجرين غير شرعيين، ولذلك وقعت وكأنها تستعد لهذا اليوم التي تطرد فيها أبناء سورية من وطنهم وتخيرهم ما بين الحرق بالنار والبراميل المتفجرة، أو الهرب عبر قوارب صغيرة في عرض البحر تكاد لا تنجيهم من الغرق.


تناقلت وكالات الأنباء خلال الأيام الماضية صورا مؤلمة لأوضاع المهاجرين العرب من سورية والعراق وليبيا. غرق كثير منهم قبل أن يعبروا البحر نحو الدول الأوروبية التي تستقبلهم، وتوفر لهم حقوقهم الإنسانية، وتتقاسم فيما بينها أعدادهم وتمنحهم فرص البحث عن العمل والحياة الكريمة، وتسن القوانين التي تحميهم وتكفل لهم الأمان.


حكومة المملكة العربية السعودية منحت المقيمين فيها من السوريين تسهيلات كبيرة في مدة الإقامة والتعليم المجاني لأطفال المقيمين، وفرص العمل، وذلك كدعم لهم حتى تنتهي أزمة وطنهم ومعاناتهم من استبداد النظام.
قبل سنة من الآن كان عدد المهاجرين السوريين ثلاثة ملايين و200 ألف شخص، نصفهم من الأطفال، وذلك بحسب تصريح محمد أبو عساكر، المتحدث باسم المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأم المتحدة. كان العدد موزعا ما بين كردستان في العراق ولبنان وتركيا والأردن، وتفاوتت برامج إيوائهم ومنحهم حقوقهم بين هذه الدول، ولكنها في الأخير آوتهم وحتى لو كانت مقصرة معهم فهي دول نامية، ما زالت بحاجة إلى العون، إذ يمثل هذا العدد الكبير عبئا عليها.


كل الجهود التي بذلتها هذه الدول لاحتواء أزمة اللاجئين السوريين لم تكن على القدر الكافي، فالشاب السوري يبحث عن مستقبل أفضل وعن عمل وطريق نحو حياة طبيعية، تلك التي لا تكفلها له مخيمات اللاجئين، والأب يأمل أن يلحق أطفاله ببرامج تعليمية تقيهم شر الجهل، بعد أن انعدمت هذه البرامج حيث يأوون، وأم تحلم بسقف يحمي أطفالها من لهيب الشمس، وجدار يعزل عنهم رياح الشتاء القارسة.


استغل مهربو البشر هذه الآمال والأحلام، ووعدوهم بأن ينجوهم من هذا الكابوس، وأن هناك دولا ما إن تحط أقدامهم على حدودها حتى تكفل لهم كرامة الإنسان وتمنحه حقوقه، إلا أنهم قبل أن يحققوا هذا الحلم يجب عليهم أن يدفعوا كثيرا من الأموال لمهربي البشر.. أن يدفعوا كل ما في حوزتهم وأكثر، وأن يقاسوا كل أنواع العذابات حتى يجتازوا البحر المتوسط الذي غرق فيه هذا العام فحسب أكثر من 2500 غريق من المهاجرين، وفي العام الماضي 3500 غريق. رأينا بعض هؤلاء الغرقى، كانوا أطفالا قذفتهم أمواج البحر على الشواطئ وبرغم قسوة الموت إلا أنه لم يسرق البراءة من ملامحهم.


يقول "أميل صرصور" رئيس اتحاد المهاجرين "ابسالا" بعد أن شاهد صور 70 جثة للاجئين في عربة ثلاجة جنوب العاصمة النمساوية فيينا، عثرت عليهم السلطات الأمنية هناك، إنه لا عزاء للضحايا وأهاليهم وأصدقائهم، وأن هذا المشهد ذكره برواية "رجال في الشمس" للكاتب غسان كنفاني والتي كتبها قبل 50 سنة حين جسد فيها هذا النوع من الموت بقصة تهريب ثلاثة فلسطينيين؛ الكهل أبو قيس والشاب أسعد والفتى مروان إلى الكويت، بعد أن دمرت حرب 1948 بلادهم وأصبحت لديهم أسباب وجيهة للهرب من هذا الشتات، وقام بتهريبهم "أبو الخيزران" فلسطيني يعمل سائق صهريج مياه في منطقة الحدود ما بين العراق والكويت. هربهم بعد أن قام بوضعهم داخل الخزان إلى أن اجتاز بهم الحدود، وكشف الغطاء عنهم ليتبين له موتهم داخل الصهريج بسبب نقص الأوكسجين وشدة الحرارة، وفي هذه الصحراء اللامتناهية تردد صدى تعليق المهرب أبو الخيزران لماذا لم يدقوا جدار الخزان!
كلنا في الوطن العربي مثل أبو الخيزران نترك اللاجئين للموت دون أن نسمع نداءاتهم، ودون أن نصغي إلى طرقاتهم على جدران الحدود التي لم نفتحها لهم، وبدلا من أن نبني مشروعا عربيا متكاملا لإيوائهم وتوفير البيئة التي تكفل لهم أبسط حقوقهم، تركناهم للبحر الأبيض المتوسط يتقاذف جثثهم.
&