عبد الوهاب بدرخان

كان لابدّ لأحد أن يتحرّك كسراً للجمود. فأن تصادر الطبقة السياسية اللبنانية الحكم والحكومة وتقفل على نفسها في مجلس الوزراء وتحجم عن إدارة شؤون البلد، ربما يمكن القول إنه أمر غير مسبوق، فضلاً عن كونه غير مقبول، ولكنه يحدث، بل لا يمكن أن يحدث إلا في لبنان. لا يتعلّق الأمر فقط بانتفاء أي وسيلة لرفع النفايات من الشوارع والحيلولة دون تداعياتها الصحية والبيئية، بل بالاستهتار بجملة واجبات لا تزال على عاتق الدولة ومنها مثلاً دفع رواتب الموظفين، بل حتى باستحقاقات منها مثلاً وجود هبات دولية يحتاج إليها البلد بشدّة لكن ينبغي أن يقرّ مجلس الوزراء «قبولها» قبل أن يتجاوزها الزمن فلا تعود متاحة. وهناك أيضاً ثروة الغاز الطبيعي قبالة الشاطئ التي دخل السياسيون في صراعات على تحاصصها، وهي لما تزل في قعر البحر ولم توضع بعد المنشآت اللازمة لاستخراجها واستغلالها، فيما بدأت إسرائيل استثمار حصتها المتاخمة جغرافياً.

&


هذه مجرد عيّنةٍ لأضرار وخسائر لبلد ينوء تجت ديونه الهائلة، ويكاد المجتمع الدولي يعلنه رسمياً «دولة فاشلة» إذا استمرّ على هذه الحال. ولذلك بدا الحراك الشبابي المدني احتجاجاً نابعاً من أعماق المجتمع ورفضاً حاسماً لمجمل الطبقة السياسية. ولكن ما يحصل ليس مفاجئاً، فهو نتيجة تعفّن يعتمل منذ عشرة أعوام بدأت باغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري وما تبعه من انقسام سياسي واجتماعي حول طبيعة العلاقة مع سوريا. لكن تخللتها حرب بين «حزب الله» وإسرائيل صيف 2006 وتبعتها أزمة داخلية دامت نحو عامين وتخللتها شهور من الفراغ في سدّة الرئاسة ولم تنتهِ إلا بغزو مقاتلي ذلك «الحزب» وحلفائه لبيروت ثم بتسوية سياسية. وما لبثت تلك التسوية أن انهارت بانقلاب «الحزب» نفسه عليها مع بداية أزمة النظام السوري، وتكرّس هذا الانقلاب بعرقلة انتخاب رئيس جديد للجمهورية في مايو 2014 لأن «حزب الله» أصرّ على إخضاع لبنان للأجندة الإيرانية في مجريات الصراع السوري، حتى أنه فرض حليفه ميشال عون مرشحاً وحيداً، فإمّا أن يلتئم مجلس النواب لانتخابه أو لا يكون انتخاب.

هذا الوضع يجرجر نفسه منذ خمسة عشر شهراً، ولكن ما علاقته بالتظاهرات التي اتخذت شعارات شبابية مثل «طلعت ريحتكم» و«بدنا نحاسب» وغيرها؟ يقول الدستور إنه بشغور منصب الرئيس تؤول صلاحياته إلى الحكومة «مجتمعة» إلى أن يُنتخب رئيس جديد، ولكنه لم يحدّد آلية عملها خلال تلك الفترة. ولما كانت هذه الحكومة «وفاقية»، كما تسمّى، وتضم وزراء يمثلون مختلف التيارات في البرلمان، فقد اجتهد أعضاؤها لوضع «آلية عمل» أصبح بموجبها كل وزير رئيساً. وبما أن الانقسام وليس الوفاق هو سمة العلاقات بين الوزراء فقد تصادمت الأهواء والمصالح إلى حدّ شلّ فاعلية الحكومة، ففضّل رئيسها لأسابيع ألا يدعوها إلى الانعقاد، ثم لوّح بالاستقالة، ثم دعاها للانعقاد ولم يتغيّر شيء. فاستقالته تفاقم المشكلة ولا تعالجها، لكنه لا يستطيع الرضوخ للأمر الواقع الذي فرضه المعطّلون، أي «حزب الله» و«التيار العوني»، خصوصاً مع انفجار أزمة السلطة في الشارع.

غير أن هؤلاء ليسوا معطّلين لعمل الحكومة فحسب بل إنهم مستفيدون من التعطيل لانتظار الوجهة التي ستتخذها إيران في الورشة الدولية البادئة لتوّها لحلّ الأزمة السورية، وهي قد تستغرق وقتاً طويلاً. وها هم قد أرسلوا «بلطجيتهم» لاختراق الحراك المدني وحرفه عن سلميّته وأهدافه،، بل استغلّوه للتهديد بتعطيل الأمن بعد تعطيل الرئاسة والحكومة والبرلمان، أي لتهديد النظام والدولة لمصلحة خطة ترمي إلى صيغة حكم بديل لا يكتفي «حزب الله» فيه باللعب في الخفاء أو بتحريك الخيوط من خلف المسرح.

استطاع منظّمو الحراك المدني يوم السبت الماضي أن يحدّدوا موقعهم بدقة ووضوح، أي ضد الجميع وليس مع أيٍّ من الفريقين، فانكشف «البلطجية» والمندسّون الذين راحوا يستفزّون وحدهم قوى الأمن، وطالما أنهم عُرفوا فقد عُرف من يحرّكهم بحثاً عن الفوضى الشاملة التي تمهّد لفتنةٍ في البلد. والفارق بين العراق ولبنان أن أحزاب «التحالف الوطني» (الشيعي) في العراق أدركت أن الحراك المدني خرج ضد سلطتها ومن بيئتها الحاضنة، ولذلك فهي تريد تدارك المخاطر ولا مصلحة له في نشوب فتنة. أما «حزب الله» فيتصرّف كأن الحراك المدني اللبناني لا يعنيه ولكنه مدرك أنه ضدّه باعتباره متحكّماً بالسلطة، وفي حال انقلب إلى فتنة فإنه جاهز لاستثمارها لمصلحته لا لمصلحة البلد.
&